فصل: الفصل الثاني

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: صبح الأعشى في كتابة الإنشا **


  الباب الرابع من المقدمة في التعريف

بحقيقة ديوان الإنشاء واصل وضعه في الإسلام وتفرقه بعد ذلك في الممالك وفيه فصلان‏.‏

  الفصل الأول في التعريف بحقيقته

لا خفاء في أنه اسم مركب من مضاف وهو ديوان ومضاف إليه وهو الإنشاء وأما الديوان فاسم للموضع الذي يجلس فيه الكتاب وهو بكسر الدال‏.‏

قال النحاس في صناعة الكتاب وفتحها خطأ قال‏:‏ وأصله دوان فأبدلت إحدى الواوين ياء فقيل ديوان ويجمع على دواوين‏.‏

واختلف في أصله فذهب قوم إلى أنه عربي‏.‏

قال النحاس‏:‏ والمعروف في لغة العرب أن الديوان الأصل الذي يرجع إليه ويعمل بما فيه‏.‏

ومنه قول ابن عباس‏:‏ إذا سألتموني عن شيء من غريب القرآن فالتمسوه في الشعر فإن الشعر ديوان العرب‏.‏

ويقال دونته أي أثبته وإليه يميل كلام سيبويه‏.‏

وذهب آخرون إلى أنه عجمي وهو قول الأصمعي وعليه اقتصر الجوهي في صحاحه فقال الديوان فارسي معرب‏.‏

وقد حكى الماوردي في الأحكام السلطانية في سبب تسميته بذلك أحدهما‏:‏ أن كسرى ذات يوم أطلع على كتاب ديوانه في مكان لهم وهم يحسبون مع أنفسهم فقال ديوانه أي مجانين فسمي موضعهم بهذا الاسم ولزمه من حينئذ ثم حذفت الهاء من آخره لكثرة الاستعمال تخفيفاً فقيل ديوان وعيله اقتصر أبو جعفر النحاس في صناعة الكتاب‏.‏

والثاني‏:‏ أن الديوان بالفارسية اسم للشياطين وسمي الكتاب بذلك لحذقهم بالأمور ووقوفهم على الجلي منها والخفي‏.‏

وأما الإنشاء فقد تقدم أنه مصدر أنشأ الشيء ينشئه إذا ابتدأه واخترعه وحينئذ فإضافة الديوان للإنشاء تحتمل أمرين‏:‏ أحدهما‏:‏ أن الأمور السلطانية من المكاتبات والولايات تنشأ عنه وتبدأ منه‏.‏

والثاني‏:‏ أن الكاتب ينشئ لكل واقعة مقالاً‏.‏

وقد كان هذا الديوان في الزمن المتقدم يعبر عنه بديوان الرسائل تسمية له بأشهر الأنواع التي تصدر عنه لأن الرسائل أكثر أنواع كتابة الإنشاء وأعمها وربما قيل ديوان المكاتبات‏.‏

ثم غلب عليه هذا الاسم وشهر به واستمر عليه إلى الآن‏.‏

  الفصل الثاني‏:‏ في أصل وضعه في الإسلام

اعلم أن هذا الديوان أول ديوان وضع في الإسلام وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكاتب أمراءه وأصحاب سراياه من الصحابة رضوان الله عليهم ويكاتبونه وكتب إلى من قرب من ملوك الأرض يدعوهم إلى الإسلام وبعث إليهم رسله بكتبه‏:‏ فبعث عمرو بن أمية الضمري إلى النجاشي ملك الحبشة وعبد الله بن حذافة إلى كسرى أبرويز ملك الفرس ودحية الكلبي إلى هرقل ملك الروم وحاطب نب أبي بلتعة إلى المقوقس صاحب مصر وسليط بن عمرو إلى هوذة بن علي ملك اليمامة والعلاء بن الحضرمي إلى المنذر بن ساوى ملك البحرين إلى غير ذلك من المكاتبات‏.‏

وكتب لعمرو بن حزم عهداً حين وجهه إلى اليمن‏.‏

وكتب لتميم الداري وإخوته بإقطاع بالشام‏.‏

وكتب كتاب القضية بعقد الهدنة بينه وبين قريش عام الحديبية‏.‏

وكتب الأمانات أحياناً‏.‏

إلى غير ذلك مما يأتي ذكره في الاستشهاد به مواضعه إن شاء الله تعالى‏.‏

وهذه المكتوبات كلها متعلقها ديوان الإنشاء بخلاف ديوان الجيش فإن أول من وضعه ورتبه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه في خلافته‏.‏

على أن القضاعي قد ذكر في تاريخه عيون المعارف وفنون أخبار الخلائف أن الزبير بن العوام وجهيم بن الصلت كانا يكتبان للنبي صلى الله عليه وسلم أموال الصدقات وأن حذيفة بن اليمان كان يكتب له خرص النخل وأن المغيرة بن شعبة والحصين بن نمير كانا يكتبان المداينات والمعاملات‏.‏

فإن صح ذلك فتكون هذه الدواوين أيضاً قد وضعت في زمنه صلى الله عليه وسلم إلا أنها ليست في الشهرة وتواتر الكتابة في زمانه صلى الله عليه وسلم كما تقدم من متعلقات كتابة الإنشاء‏.‏

وقد رأيت في سيرة لبعض المتأخرين أنه كان للنبي صلى الله عليه وسلم نيف وثلاثون كاتباً‏:‏ أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب وعامر بن فهيرة وخالد بن سعيد بن العاص بن أمية وأبان أخوه وسعيد أخوهما وعبد الله بن الأرقم الزهري وحنظلة بن الربيع الأسدي وأبي بن كعب وثابت بن قيس بن شماس وزيد بن ثابت وشرحبيل بن حسنة ومعاوية بن أبي سفيان والمغيرة بن شعبة وعبد الله بن زيد وجهيم بن الصلت والزبير بن العوام وخالد بن الوليد والعلاء بن الحضرمي وعمرو بن العاص وعبد الله بن رواحة ومحمد بن مسلمة وعبد الله بن عبد الله بن أبي ومعيقب بن أبي فاطمة وطلحة بن زيد بن أبي سفيان والأرقم ابن الأرقم الزهري والعلاء بن عتبة وأبو أيوب الأنصاري وبريدة بن الخصيب والحصين بن نمير وأبو سلمة المخزومي وحويطب بن عبد العزى وأبو سفيان بن حرب وحاطب بن عمرو وعبد الله بن سعد بن أبي سرح وكان ألزمهم له في الكتابة معاوية بن أبي سفيان وزيد بن ثابت‏.‏

وكتب لأبي بكر عثمان بن عفان وزيد بن ثابت وعثمان هو الذي كتب عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه بالخلافة عن أبي بكر رضوان الله عليه كما سيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى‏.‏

وكتب لعمر رضي الله عنه زيد بن ثابت وعبد الله بن خلف‏.‏

وكتب لعثمان رضي الله عنه مروان بن الحكم‏.‏

وكتب لعلي عبد الله بن أبي رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسعيد بن نجران الهمداني‏.‏

وكتب للحسن بن علي رضي الله عنهما عبد الله بن أبي رافع كاتب أبيه‏.‏

ثم كانت دولة بني أمية فتوالت خلفاؤهم من معاوية بن أبي سفيان فمن بعده وأمر ديوان الإنشاء في زمن كل أحد مفوض إلى كاتب يقيمه إلى حين انقراض دولتهم‏.‏

وكان الخليفة هو الذي يوقع على القصص ويحدثها بنفسه‏.‏

والكاتب يكتب ما يبرز إليه من توقيعه ويصرفه بقلمه على حكمه‏.‏

وكان ممن اشتهر من كتابهم بالبلاغة وقوة الملكة في الكتابة حتى سار ذكره في الآفاق وصار يضرب به المثل على ممر الأزمان عبد الحميد بن يحيى كاتب مروان بن محمد آخر خلفائهم‏.‏

فلما بزغت شمس الخلافة العباسية بالعراق وولي الخلافة أبو العباس السفاح أول خلفاء بني العباس استوزر أبا سلمة الخلال وهو أول من لقب بالوزارة في الإسلام على ما سيأتي وتوالت الوزارة فيكون الوزير هو الذي ينفذ أموره بقلمه ويتولى أحواله بنفسه وتارة يفرد عنه بكاتب ينظر في أمره ويكون الوزير هو الذي ينفذ أموره بكلامه ويصرفها بتوقيعه على القصص ونحوها وصاحب ديوان الإنشاء يعتمد ما يرد عليه من ديوان الوزارة ويمشي على ما يلقى إليه من توقيعه وربما وقع الخليفة بنفسه حتى بعد غلبة ملوك الأعاجم من الديلم وبني سلجوق وغيرهم على الأمر والأمر على ذلك تارة وتارة إلى انقراض الخلافة من بغداد‏.‏

وكان ممن اشتهر من وزرائهم بالبلاغة حتى صار يضرب به المثل يحيى بن خالد وزير الرشيد والحسن بن سهل وعمرو بن مسعدة كاتب المأمون وابن المقفع مترجم كتاب كليلة ودمنة وسهل بن هارون الذي ترجمها‏.‏

والأستاذ أبو الفضل بن العميد والصاحب كافي الكفاة إسماعيل بن عباد وأبو إسحاق الصابي في جماعة آخرين منهم‏.‏

ثم لما انقرضت الخلافة من بغداد في وقعة هولاكو ملك التتاري سنة ست وخمسين وستمائة واستولت المغل والأعاجم على بغداد بطل رسم الكتابة المعتبرة وصار أكثر ما يكتب عن ملوك التتار بالمغلية أو الفارسية والأمر على ذلك إلى زماننا على ما سيأتي بيانه في الكلام وكانت بلاد الغرب والأندلس بأيدي نواب الخلفاء من حين الفتح الإسلامي في خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه ولا عناية لهم بديوان الإنشاء للتقرب من البداوة وغايته المكاتبة إلى ديوان الخلافة ونحو ذلك فلما غلب بنو العباس على الخلافة هرب طائفة من بني أمية إلى بلاد المغرب وجازت البحر إلى الأندلس فانتزعوه من النواب الذين كانوا به وملكوه وصاروا ينصبون فيه خليفة بعد خليفة جارين على سنن ما كانوا عليه بالشام من ألقاب الخلافة مضاهين لخلافة بني العباس ببغداد‏:‏ من إقامة شعار الخلافة‏.‏

واتخاذ ديوان الإنشاء واستخدام بلغاء الكتاب‏.‏

وتعدت دولتهم إلى بر العدوة من بلاد المغرب فحكموه ثم تقاصر أمرهم بعد ذلك شيئاً فشيئاً باستيلاء المستولين المستبدين عليهم بالأمر إلى أن انقرضت دولتهم من الأندلس وبلاد المغرب واستولت عليهم طوائف من الملوك وتنقلت بهم الأحوال في استيلاء الملوك على كل ناحية منهما وتتابعت الدول في كل حين كلما خبت دولة نجمت أخرى على ما سيأتي ذكره في مكاتبات ملوكهما إن شاء الله تعالى‏.‏

وكان حال ديوان الإنشاء فيهم بحسب ما يكونون عليه من الحضارة والبداوة فأوائل الدول القريبون عهداً بالبادية لا عناية لهم بكتابة الإنشاء وإذا استحضرت الدولة صرفت اهتمامها إلى ديوان الإنشاء وترتيبه إلى أن استقر ما بقي من الأندلس بعد ما ارتجعته الفرنج منه بأيدي بني الأحمر والغرب الأقصى بيد بني مرين‏.‏

والغرب الأوسط بيد بني عبد الواد وإفريقية بيد بقايا الموحدين من أتباع المهدي بن تومرت وداخلتهم الحضارة فأخذوا في ترتيب دواوين الإنشاء بهذه الممالك ومعاناة البلاغة في المكاتبات ونحوها واستمر الحال على ذلك إلى زماننا‏.‏

وممن اشتهر بالبلاغة من كتاب المغاربة والوزراء به‏:‏ أبو الوليد بن زيدون والوزير أبو حفص بن برد الأصفر الأندلسي وذو الوزارتين أبو المغيرة بن حزم والوزير أبو القاسم محمد بن الحد في جماعة أخرى من متقدمي كتابهم‏.‏

ومن متأخريهم‏:‏ عبد المهيمن كاتب السلطان أبي الحسن المريني وأربى على كثير من المتقدمين ابن الخطيب وزير ابن الأخمر صاحب غرناطة من الأندلس ممن أدركه من عاصرناه‏.‏

أما الدير المصرية فلديوان الإنشاء بها خمس حالات‏:‏ الحالة الأولى‏:‏ ما كان الأمر عليه من حين الفتح والى بداية الدولة الطولونية ونواب الخلفاء تتوالى عليهم واحداً بعد واحد فلم يكن لهم عناية بديوان الإنشاء ولا صرف همة إليه‏:‏ للاقتصار على المكاتبات لأبواب الخلافة والنزر اليسير من الولايات ونحو ذلك‏.‏

ولذلك لم يصدر عنهم ما يدون في الكتب ولا يتناقل بالألسنة‏.‏

الحالة الثانية‏:‏ ما كان الأمر عليه في الدولة الطولونية من ابتداء ولاية أحمد بن طولون واستفحال ملك الديار المصرية في الإسلام وترتيب أمرها والى حين انقراض الدولة الاخشيديه وفي خلال ذلك ترتب ديوان الإنشاء بها وأنتظم أمر المكاتبات والولايات وكان ممن اشتهر من كتابهم بالبلاغة وحسن الكتابة‏:‏ أبو جعفر محمد بن أحمد بن مودود بن عبد‏:‏ كان كاتب أحمد بن طولون‏.‏

وكان مبدأ الكتاب المشهورين بها‏.‏

وكتب بعده لخماروه بن أحمد بن طولون إسحاق بن نصر العبادي النصراني وتوالت الكتاب بالديوان بعد ذلك‏.‏

الحالة الثالثة‏:‏ ما كان الأمر عليه من ابتداء الدولة الفاطمية وإلى انقراضها‏.‏

ولما ولي الفاطميون الديار المصرية صرفوا مزيد عنايتهم لديوان الإنشاء وكتابه فارتفع بهم قدره وشاع في الآفاق ذكره وولي ديوان الإنشاء عنهم جماعة من أفاضل الكتاب وبلغائهم‏:‏ ما بين مسلم وذمي فكتب للعزيز بالله ابن المعز أبو المنصور بن سوردين النصراني ثم كتب بعده لابنه الحاكم ومات في أيامه فكتب للحاكم القاضي أبو الطاهر البهزكي ثم كتب بعده لابنه الظاهر وكتب للمستنصر القاضي ولي الدين بن خيران ثم ولي الدولة موسى بن الحسن قبل انتقاله إلى الوزارة وأبو سعيد العميدي‏.‏

وكتب للآمر والحافظ الشيخ الأجل أبو الحسن علي بن أبي أسامة الحلبي إلى أن توفي سنة اثنتين وعشرين وخمسمائة فكتب بعده ولده الأجل أبو المكارم إلى أن توفي في أيام الحافظ وكان يكتب بين يديهما الشيخ الأمين تاج الرآسة أبو القاسم علي بن سليمان بن منجد المبصري المعروف بابن الصيرفي والقاضي كافي الكفاة محمود ابن القاضي الموفق أسعد بن قادوس وابن أبي الدم اليهودي ثم كتب بعد الشيخ أبي المكارم بن أبي أسامة المتقدم ذكره القاضي الموفق ابن الخلال أيام الحافظ والى آخر أيام العاضد وبه تخرج القاضي الفاضل البيساني ثم شرك العاضد مع الموفق ابن الخلال في ديوان الإنشاء القاضي جلال الملك محمود بن الأنصاري وكان في أيامه القاضي المؤتمن كاسيبويه‏.‏ثم كتب القاضي الفاضل بين يدي الموفق ابن الخلال قرب وفاته في سنة ست وستين وخمسمائة في وزارة الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب وكتب من إنشائه عدة سجلات ومكاتبات عن العاضد آخر خلفائهم‏.‏

الحالة الرابعة‏:‏ ما كان الأمر عليه من ابتداء دولة بني أيوب إلى آخر انقراضها‏.‏

قد تقدم أن القاضي الفاضل رحمه الله كان قد كتب بين يدي الموفق ابن الخلال في وزارة السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب رحمه الله عن العاضد آخر خلفاء الفاطميين فلما استقل السلطان صلاح الدين المذكور بالملك وخطب لبني العباس على ما تقدم في الكلام على ملوك مصر فوض إلى الفاضل الوزارة وديوان الإنشاء فكان يتكلم فيهما جميعاً وأقام على ذلك إلى أن مات السلطان صلاح الدين فكتب بعده لابنه العزيز وأخيه العادل أبي بكر ثم مات وكتب للكامل بن العادل القاضي أمين الدين سليمان المعروف بكاتب الدرج إلى أن توفي فكتب بعده للكامل الشيخ أمين الدين عبد المحسن الحلبي مدة قليلة وتوالت كتاب الإنشاء في الولاية إلى أن ولي الملك الصالح نجم الدين أيوب فولى ديوان الإنشاء الصاحب بهاء الدين زهيراً‏.‏

ثم صرفه وولى بعده الصاحب فخر الدين إبراهيم بن لقمان الإسعردي فبقي إلى انقراض الدولة الأيوبية‏.‏

الحالة الخامسة‏:‏ ما كان الأمر عليه في الدولة التركية مما هو مستقر إلى الآن‏.‏

قد تقدم أن الصاحب فخر الدين بن لقمان بقي في ديوان الإنشاء إلى آخر الدولة الأيوبية‏.‏

ولما صارت المملكة إلى الدولة التركية بقي في صحابة ديوان الإنشاء أيام أيبك التركماني ثم أيام المظفر قطز ثم أيام الظاهر بيبرس ثم أيام المنصور قلاوون‏.‏

فباشر ديوان الإنشاء في أيامه مدة ثم نقله إلى الوزارة وولى مكانه بديوان الإنشاء القاضي فتح الدين بن القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر في حياة والده فبقي حتى توفي المنصور قلاوون واستقر بعده ابنه الأشرف خليل واستمر عنده في كتابة السر برهة من الزمان وسافر معه إلى الشام فمات بالشام فولي الأشرف مكانه القاضي تاج الدين في أثناء الطريق بمضي شهر من ولايته فولى مكانه القاضي شرف الدين عبد الوهاب بن فضل الله فأقام بقية أيام الأشراف بن قلاوون وأيام أخيه الناصر محمد بن قلاوون في سلطته الأولى وأيام العادل كتبغا وأيام المنصور لاجين وأيام الناصر محمد بن قلاوون في سلطنته الثانية وأيام المظفر بيبرس الجاشنكير وبرهة من أيام الناصر محمد بن قلاوون في سلطنته الثالثة‏.‏

ثم نقله إلى كتابة السر بدمشق المحروسة عوضاً عن أخيه القاضي محيي الدين بن فضل الله وولى مكانه بمصر علاء الدين بن الأثير لسابق وعد له منه حين كان معه في الكرك وبقي حتى مرض بالفالج وبطلت حركته فاستدعى الملك الناصر القاضي محيي الدين بن فضل الله من الشأم فولاه ديوان الإنشاء بالديار المصرية في المحرم سنة تسع وعشرين وسبعمائة‏.‏

وكان ولده القاضي شهاب الدين هو الذي يقرأ البريد على السلطان وينفذ المهمات إلى سنة اثنتين وثلاثين وسبعمائة فأعادهما الملك الناصر إلى دمشق وولى مكانهما القاضي شرف الدين بن الشهاب محمود في شعبان من السنة المذكورة فبقي حتى حج السلطان وعاد إلى مصر‏.‏

فأعاد القاضي محيي الدين وولده القاضي شهاب الدين إلى ديوان الإنشاء بالديار المصرية فبقيا إلى سنة ثمان وثلاثين وسبعمائة‏.‏

وفي أواخر ذلك تغير السلطان على القاضي شهاب الدين المذكور وصرفه عن المباشرة وأقام أخاه القاضي علاء الدين مكانه يباشر مع والده وبقي الأمر على ذلك مدة لطيفة‏.‏

ثم سأل القاضي محيي الدين السلطان في العود إلى دمشق وقد كبرت سنه وضعفت حركته فأعاده وصحبته ولده القاضي شهاب الدين وكتب له تقليد في قطع الثلثين‏:‏ بأن يستمر على صحابه دواوين الإنشاء بالممالك الإسلامية وأن يكون جميع المباشرين لهذه الوظيفة بالباب الشريف فمن دونه نوابه وأنه حيث حل يقرأ القصص والمظالم ويقرر الولايات والعزل والرواتب وغير ذلك ويوقع فيها بما يراه وتجهز إلى مصر ليعلم عليها العلامة الشريفة وفوض أمر ديوان الإنشاء بالديار المصرية لولده القاضي علاء الدين استقلالاً وتجهز القاضي محيي الدين للسفر فمرض ومات بعد أيام قلائل في شهر رمضان سنة ثمان وثلاثين وسبعمائة بالقاهرة‏.‏

ثم نقل إلى دمشق سنة تسع وبقي ولده القاضي علاء الدين فبقي في الوظيفة بقية أيام الملك الناصر ثم أيام ولده المنصور أبي بكر ثم أخيه الأشرف كجك ثم أخيه الملك الناصر أحمد‏.‏

فلما خلع الناصر أحمد نفسه في سنة ثلاث وأربعين وتوجه إلى الكرك توجه القاضي علاء الدين معه فأقام عنده واستقر الصالح إسماعيل بن محمد بن قلاوون في السلطنة بعد أخيه أحمد فقرر في ديوان الإنشاء القاضي بدر الدين محمد بن محيي الدين بن فضل الله فبقي في الوظيفة إلى أن عاد أخوه القاضي علاء الدين من الكرك فأعيد إلى منصبه وبقي بقية أيام الملك الصالح إسماعيل ثم أيام أخيه الكامل شعبان ثم أيام أخيه المظفر حاجي ثم أيام أخيه الناصر حسن في سلطنته الأولى ثم أيام أخيه الصالح صالح ثم أيام الناصر حسن ثانياً ثم أيام المنصور محمد بن حاجي بن محمد بن قلاوون ثم أيام الأشرف شعبان بن حسين بن محمد بن قلاوون فتوفي وولي الوظيفة بعده ولده القاضي بدر الدين محمد فبقي بقية أيام الأشرف شعبان ثم أيام ولده المنصور علي ثم أيام أخيه الصالح حاجي بن شعبان إلى أن خلع وجاءت الدولة الظاهرية برقوق وعاد المنصور حاجي بن الأشرف شعبان إلى السلطنة وهو مستمر المباشرة‏.‏

فلما عاد الظاهر برقوق من الكرك حضر معه القاضي علاء الدين علي الكركي فولاه كتابة السر وبقي حتى توجه صحبة السلطان إلى الشام في طلب منطاش فمات القاضي علاء الدين وكان القاضي بدر الدين صحبته فأعيد إلى الوظيفة في سنة ثلاث وتسعين وسبعمائة وعاد مولى صحبة الركاب الشريف السلطاني‏.‏

ثم توجه صحبته إلى الشام عند وصول تمر لبغداد فمرض ومات هناك فولى الظاهر مكانه القاضي بدر الدين محمود السراي الكلستاني في شوال سنة ست وتسعين وسبعمائة وحضر صحبة الركاب الشريف إلى الديار المصرية فبقي حتى توفي في جمادى الأولى سنة إحدى وثمانمائة فولى الظاهر مكانه المقر العالي الفتحي فتح الله ففتح الله به من أبواب ديوان الإنشاء ما كان مغلقاً وأصفى به من ورده ما كان مكدراً‏.‏

وانتقلتن السلطنة بعد وفاة الظاهر برقوق إلى ولده الناصر فرج فأجراه من المباشرة والإجلال والتعظيم عل عادة أبيه‏.‏

ثم صرفه عن الوظيفة في شهور سنة ثمان وثمانمائة وأقام مكانه في الوظيفة المقر السعدي إبراهيم بن غراب وهو يومئذ مشير الدولة بعد تنقله في وظائف الديار المصرية والمشار إليه وأقام بها بمدة لطيفة وعادت إلى المقر الفتحي فتح الله المشار إليه وقيل‏:‏ ‏"‏ هذه بضاعتنا ردت إلينا ‏"‏ فجرى فيها على الأسلوب الأول والمهيع السابق‏:‏ من العدل والإنصاف والإحسان إلى الخلق وإيصال البر إلى مستحقيه والمساعدة في الله لمن عرف ومن لم يعرف والله هو المكافئ لعباده على جميل الصنع‏!‏ من يفعل الخير لم يعدم جوازيه لن يذهب العرف بين الله والناس

  الباب الخامس من المقدمة في قوانين ديوان الإنشاء وترتيب أحواله وآداب أهله

وفيه أربعة فصول

  الفصل الأول‏:‏ في بيان رتبة صاحب هذا الديوان ورفعة قدره وشرف محله ولقبه الجاري عليه في القديم والحديث

أما رفعة محله وشرف قدره فأرفع محل وأشرف قدر يكاد أن لا يكون عند الملك أخص منه ولا ألزم لمجالسته ولم يزل صاحب هذا الديوان معظماً عند الملوك في كل زمن مقدماً لديهم على من عداه‏:‏ يلقون إليه أسرارهم ويخصونه بخفايا أمورهم ويطلعونه على ما لم يطلع عليه أخص الأخصاء من الوزراء والأهل والولد وناهيك برتبة هذا محلها‏!‏ قال صاحب مواد البيان ليس في منزلة خدم السلطان والمتصرفين في مهماته أخص من كاتب الرسائل‏.‏

فإنه أول داخل على الملك وآخر خارج عنه ولا غنى له عن مفاوضته في آرائه والإفضاء إليه بمهماته وتقريبه من نفسه في آناء ليلة وساعات نهاره وأوقات ظهروه للعامة وخلواته وإطلاعه على حوادث دولته ومهمات مملكته فهو لذلك لا يثق بأحد من خاصته ثقته به ولا يركن إلى قريب ولا نسيب ركونه إليه ومحله منه في عائدة خدمته وأثرة دولته محل قبله الذي يؤامره في مشكل رأيه حتى يتنقح ويراجعه في مهم تدبيره حتى يتضح ولسانه الذي يقرر بترغيبه أولياءه على الطاعة والموافقة ويستقر بترهيبه عن المعصية والمشاقة ويقر بأوامره ونواهيه أمر سلطانه وينزلها منازلها في متمهد مجالسها ويتمكن من سياسة أجناده وعمارة بلاده ومصلحة رعيته واجتلاب مودتهم واستخلاص نياتهم وعينه التي تلاحظ أحوال سلطانه ويرعيها مهمات شأنه وأذنه التي يثق بما وعته ولا يرتاب بما سمعته ويده التي يبسطها بالإنعام ويبطش بها في النقض والإبرام‏.‏

قال‏:‏ ومن كانت هذه رتبته فالسبب الذي رتبه فيها أفضل الأسباب وأجدرها بالتقديم على الاستحقاق والاستيجاب‏.‏

قال ابن الطوير في ترتيب الدولة الفاطمية وكان هذا المنصب لا يتولاه في الدولة الفاطمية إلا أجل كتاب البلاغة ويخاطب بالأجل وإليه تسلم المكاتبة واردة مختومة فيعرضها على الخليفة من يده وهو الذي يأمر بتنزيلها والإجابة عنها وربما بات عند الخليفة ليالي وهذا أمر لا يصل إليه غيره‏.‏

قال‏:‏ وهو أول أرباب الإقطاعات في الكسوة والرسوم والملاطفات ولا سبيل أن يدخل إلى ديوانه أحد ولا يجتمع بأحد من كتابه إلا الخواص وله حاجب من الأمراء الشيوخ وله في مجلسه المرتبة العظيمة والمخاد والمسند والدواة العظيمة الشأن ويحمل دواته أستاذ من خواص الخليفة عند حضوره إلى مجلس الخلافة‏.‏

قلت‏:‏ ومرتبته في زماننا أرفع مرتبة ومحله أعظم محل إليه تلقى أسرار المملكة وخفاياها وبرأيه يستضاء في مشكلاتها وعلى تدبيره يعول في مهماتها وإليه ترد المكاتبات وعنه تصدر ومن ديوانه تكتب الولايات السلطانية كافة ويقوم توقيعه على القصص في نفوذ الأوامر مقام توقيع السلطان وجميع ما يعلم عليه السلطان من جليل وحقير في مزرته حتى ما يكتب من ديوان الجيش من المناشير وما يكتب من ديوان الوزارة وديوان الخاص وغيرهما من المربعات ونحوها‏.‏

وليس لأحد من المتولين لهذه المناصب التعرض لأخذ علامة سلطانية البتة وناهيك بذلك رفعة وشرفاً باذخاً‏.‏

وأما لقبه الجاري عليه في كل زمن فقد تقدم أنهم كانوا في زمن بني أمية وما قبله يعبرون عنه بالكاتب لا يعرفون غير ذلك كما أشار إليه القضاعي في عيون المعارف‏.‏

فلما جاءت الدولة العباسية واستقر السفاح أول خلفائهم في الخلافة لقب كاتبه أبا سلمة الخلال بالوزارة وترك اسم الكاتب واستقر لقب الوزارة على من يليها من أرباب السيوف والأقلام إلى انقراض الخلافة من بغداد‏.‏

وتقدم أيضاً أن هذا الديوان كان تارة يضاف إلى الوزارة فيكون الوزير هو الذي يباشره بنفسه أو يفوضه إلى من يتحدث فيه عنه وتارة ينفرد عنها فحيث انفرد عن الوزارة لقب متوليه بما يتضمن إضافته إلى صحابة الديوان وولايته بحسب ما يشتهر به الديوان في ذلك الزمن‏.‏

فحيث كان الديوان مشهوراً بديوان الرسائل كما كان في الزمن الأول لقب متوليه بصاحب ديوان الرسائل أو متولي ديوان الرسائل وربما قيل صاحب ديوان المكاتبات أو متولي ديوان المكاتبات وحيث كان الديوان مشهوراً بديوان الإنشاء كما في زماننا بالديار المصرية لقب متوليه بصاحب ديوان الإنشاء‏.‏

وربما جمعوا لفظ الديوان تعظيماً لمتوليه فقالوا صاحب دواوين الإنشاء بالممالك الإسلامية‏.‏

وعلى هذا مصطلح كتاب الديوان في زماننا في تعريفه فيما يكتب له من تقليد أو غيره على أنه لو قيل ناظر دواوين الإنشاء لكان أعلى في الرتبة لما أشتهر في العرف من أن لفظ ناظر الديوان أعلى من صاحب الديوان‏.‏

قال ابن الطوير‏:‏ وكانوا يلقبونه في الدولة الفاطمية بالديار المصرية كاتب الدست‏.‏

قلت‏:‏ انتهى الأمر إلى أوائل الدولة التركية والحال في ذلك مختلف فتارة يلي الديوان كاتب واحد يعبر عنه بكاتب الدست وربما عبر عنه بكاتب الدرج وتارة يليه جماعة يعبر عنهم بكتاب الدست‏.‏

ويقال إنهم كانوا في أيام الظاهر بيبرس ثلاثة نفر أرفعهم درجة القاضي محي الدين بن عبد الظاهر‏.‏

وبقي الأمر على ذلك إلى أن ولي الديوان القاضي فتح الدين بن عبد الظاهر في أيام المنصور قلاوون على ما تقدم ذكره فلقب بكاتب السر ونقل لقب كاتب الدست إلى طبقة دونه من كتاب الديوان‏.‏

واستمر ذلك لقباً على كل من ولي الديوان إلى زماننا على ما سيأتي ذكره‏.‏

ويضاهيه في ذلك من العرف العام متولي ديوان الإنشاء بدمشق وبحلب وبطرابلس وبحماة وبصفد إلا أنه لا يقال في واحد منهم في مصطلح الديوان صاحب دواوين الإنشاء كما يقال في متولي ديوان الإنشاء بالديار المصرية بل يقال في متولي ديوان دمشق صاحب ديوان الإنشاء بالشام وفي متولي ديوان حلب صاحب ديوان المكاتبات بحلب وكذا في الباقيات‏.‏

أما غزة والكرك والإسكندرية وغيرها من النيابات الصغار فإنما يقال في متولي شيء من دواوينها كاتب درج ولا يطلق عليه كاتب سر بوجه‏.‏

واعلم أن العامة يبدلون الباء من كاتب السر بميم فيقولون كاتم السر وهو صحيح المعنى إما لأنه يكتم سر الملك أو من باب إبدال الباء بالميم على لغة ربيعة وإن كانوا لا يعرفون الثاني‏.‏

  الفصل الثاني

قال أبو الفضل الصوري في مقدمة تذكرته‏:‏ يجب أن يكون صبيح الوجه فصي الألفاظ طلق اللسان أصيلاً في قومه رفيعاً في حيه وقوراً حليماً مؤثراً للجد على الهزل كثير الأناة والفق قليل العجلة والخرق نزر الضحك مهيب المجلس ساكن الظل وقور النادي شديد الذكاء متوقد الفهم حسن الكلام إذا حدث حسن الإصغاء إذا حدث سريع الرضا بطيء الغضب رءوفاً بأهل الدين ساعياً في مصالحهم محباً لأهل العلم والأدب راغباً في نفعهم وأن يكون محباً للشغل أكثر من محبته للفراغ مقسماً للزمان على أشغاله‏:‏ يجعل لكل منها جزءاً منه حتى يستوعبه في جميع أقسامها ملازماً لمجلس الملك إذا كان جالساً وملازماً للديوان إذا لم يكن الملك جالساً‏:‏ ليتأسى به سائر كتاب الديوان ولا يجدوا رخصة في الغيبة عن ديوانهم وأن يغلب هوى الملك على هواه ورضاه على رضاه ما لم ير في ذلك خللاً على المملكة فإنه يجب أن يهدي النصيحة فيها للملك من غير أن يوجده فيما تقدم من رأيه فساداً أو نقصاً لكن يتحيل لنقص ذلك وتهجينه في نفسه وإيضاح الواجب فيه بأحسن تأن وأفضل تلطف وأن ينحل الملك صائب الآراء ولا ينتحلها عليه ومهما حدث من الملك‏:‏ من رأي صائب أو فعل جميل أو تدبير حميد أشاعه وأذاعه وعظمه وفخمه وكرر ذكره وأوجب على الناس حمده عليه وشكره‏.‏

وإذا قال الملك قولاً في مجلسه أو بحضرة جماعة ممن يخدمه فلم يره موافقاً للصواب فلا يجبه بالرد عليه واستهجان ما أتى به فإن ذلك خطأ كبير بل يصبر إلى حين الخلوة ويدخل في أثناء كلامه ما يوضح به نهج الصواب من غير تلق برد ولا يتبجح بما عنده ويكون من تابعاً للملك على أخلاقه الفاضلة وطباعه الشريفة‏:‏ من بسط المعدلة ومد رواق الأمنة ونشر جناح الإنصاف وإغاثة الملهوف ونصرة المظلوم وجبر الكسير والإنعام على المعتر المستحق والتوفر على الصدقات وعمارة بيوت الله تعالى وصرف الهمم إلى مصالحها والنظر في أحوال الفقهاء وحملة كتاب الله العزيز بما يصلح والالتفات إلى عمارة البلاد وجهاد الأعداء ونشر الهيبة وإقامة الحدود في مواضعها وتعظيم الشريعة والعمل بأحكامها فيكون لجميع ذلك مؤكداً ولأفعاله فيه موطداً ممهداً‏.‏

وإن أحس منه بخلة تنافي هذه الخلال أو فعلة تخالف هذه الأفعال نقله عنها بألطف سعي وأحسن تدريج ولا يدع ممكناً في تبيين قبحها وإصلاح رداءة عاقبتها وفضيلة مخالفتها إلا بينه وأوضحه إلى أن يعيده إلى الفضائل التي هي بالملوك النبلاء أليق وأن يكون مع ذلك بأعلى مكانة من اليقظة والاستدلال بقليل القول على كثيره وببعض الشيء على جميعه ويستغنى عن التصريح بالإشارة والإيماء بل الرمز والإيحاء‏:‏ لينبه الملك على الأمور من أوائلها ويعرفه خاتم الأشياء من مفتتحاتها ويحذره حين تبدو له لوائح الأمر من قبل أن يتساوى فيه العالم والجاهل كما حكي عن خالد بن برمك‏:‏ أنه كان مع قحطبة في معسكر جالسين في خيمة إذ نظر خالد إلى سرب من الظباء قد أتى حتى كاد يخالط العسكر فأشار على قحطبة بالركوب فسأله عن السبب فقال الأمر أعجل أن أبين سببه‏.‏

فركب وأركب العسكر فلم يستتموا الركوب إلا والعدو قد دهمهم وقد استعدوا له فكانت النصرة لهم على العدو‏.‏

فلما انقضى الحرب سأل قحطبة خالداً من أين أدرك ذلك فقال‏:‏ رأيت الظباء وقد أقبلت حتى خالطت العسكر فعرفت أنها لم تفعل ذلك مع نفورها من الإنس إلا لأمر عظيم قد دهمها من ورائها‏.‏

وأن لا يكتب عنو الملك إلا ما يقيم منار دولته ويعظمها ولا يخرج عن حكم الشريعة وحدودها ولا يكتب ما يكون فيه عيب على المملكة ولا ذم لها على غابر الأيام مستأنف الأحقاب وإن أمر بشيء يخرج عن ذلك وتلطف في المراجعة بسببه وبين وجه الصواب فيه إلى أن يرجع به إلى الواجب‏.‏

وأن يكون من كتام السر بالمنزلة التي لا يدانيه فيها أحد ولا يقاربه فيها بشر حتى يقرر في نفسه إماتة كل حديث يعلمه ويتناسى كل خبر يسمعه‏.‏

وأن لا يطلع والداً ولا ولداً ولا أخاً شقيقاً ولا صديقاً صدوقاً على ما دق أو جل ولا يعلمه بما كثر منه ولا قل ويتوهم بل يتحقق أن في إذاعته ما يعلم به وضع منزلته وحط رتبته ويجتهد في أن يصير له ذلك طبعاً مركباً وأمراً ضرورياً‏.‏

قلت‏:‏ وهذه الصفة هي الشرط اللازم والواجب المحتم‏:‏ بها شهر وبالإضافة إليها عرف‏.‏

وقد قال المأمون وهو من أعلى الخلفاء مكاناً وأوسعهم علماً‏:‏ الملوك تحتمل كل شيء إلا ثلاثة أشياء‏:‏ القدح في الملك وإفشاء السر والتعرض للحرم‏.‏

ومن كلام بعض الحماء‏:‏ سرك من دمك‏.‏

وإلى ذلك يشير أبو محجن الثقفي بقوله‏:‏ قد أطعن الطعنة النجلاء عن عرض وأكتم السر فيه ضربة العنق وقال الوليد بن عتبة لأبيه‏:‏ إن أمير المؤمنين أسر إلي حديثاً أفلا أخبرك به قال يا بني‏:‏ إن من كتم سره كان الخيار له ومن أفشاه كان الخيار عليه فلا تكون مملوكاً بعد أن كنت مالكاً‏.‏

وقد كانت ملوك الفرس تقول‏:‏ أعظم الناس حقاً على جميع الطبقات من ولي أسرار الملوك‏.‏

واعلم أنه إذا كان إفشاء السر ربما أفضى إلى الهلكة خصوصاً أسرار الملوك فعلى صاحب هذه الوظيفة القيام من ذلك بواجبه وكتمان السر حتى عن نفسه فقد حكى صاحب الريحان والريعان‏:‏ أن عبد الله بن طاهر تذاكر الناس في مجلسه حفظ السر فقال عبد الله‏:‏ ومستودعي سراً تضمنت ستره فأودعته في مستقر الحشا قبرا فقال ابنه عبيد الله وهو صبي‏:‏ وما السر من قلبي كثاو بحفرة لأني أرى المدفون ينتظر الحشرا ولكنني أخفيه حتى كأنني من الدهر يوماً ما أحطت به خبرا وعلى صاحب هذه الرتبة الاحتياط حالة تلقي السر عن الملك بأن لا يتلقاه عنه بحضرة أحد‏.‏

فقد حكي أن بعض ملوك العجم استشار وزيريه فقال أحدهما‏:‏ لا ينبغي للملك أن يستشير منا أحداً إلا خالياً فإنه أموت للسر وأحرم للرأي وأجدر بالسلامة وأعفى لبعضنا من غائلة بعض فإن إفشاء السر إلى رجل واحد أوثق من إفشائه إلى اثنين وإفشاءه إلى ثلاثة كإفشائه إلى جماعته لأن الواحد رهن بما أفشي إليه‏.‏

والثاني مطلق عليه ذلك الرهن‏.‏

والثالث علاوة وإذا كان السر عند واحد كان أحرى أن لا يظهره رغبة أو رهبة وإن كان عدي اثنين كان على شبهة واتسعت عن الرجلين المعاريض فإن عاقبهما عاقب اثنين بذنب واحد وإن اتهمهما اتهم بريئاً بجناية مجرم وإن عفا عنهما كان العفو عن أحدهما ولا ذنب له وعن الآخر ولا حجة معه‏.‏

قلت‏:‏ وكما يجب عليه الاحتياط حالة تلقي السر عن الملك فكذلك يجب عليه الاحتياط حالة إلقائه إلى كاتب يكتبه فلا يلقيه إلى كاتبين جميعاً ولا يخاطب فيه أحدهما بحضرة الآخر لتكون العهدة في دركه على واحد بعينه‏.‏

على أنه ربما أفشي السر مع احتراز صاحبه عن إفشائه فقد قيل‏:‏ إن الجن تنقل الأخبار وتفشي ما تطلع عليه من الأسرار‏.‏

وقد حكي عن علي بن الجهم أنه قال‏:‏ دخلت على أمير المؤمنين المتوكل فرأيت الفتح بن خاقان وزيره واقفاً على غير مرتبة التي يقوم عليها متكأ على سيفه مطرقاً إلى الأرض فأنكرت حالهن وكنت إذا نظرت إليه نظر الخليفة إلي وإذا صرفت وجهي إلى نحو الخليفة أطرق فقال لي الخليفة‏:‏ يا علي أنكرت شيئاً قلت‏:‏ نعم يا أمير المؤمنين‏!‏ قال كما هو قلت‏:‏ وقوف الفتح بن خاقان في غير منزلته قال‏:‏ سوء اختياره أقامه ذلك المقام قلت‏:‏ ما السبب يا أمير المؤمنين قال‏:‏ خرجت من عند جارية لي فأسررت إليه سراً فما عداني السر أن عاد إلي‏.‏

قلت‏:‏ لعلك أسررت إلى غيره قال‏:‏ ما كان هذا‏!‏ قلت‏:‏ فلعل مستمعاً استمع إليكما قال‏:‏ لا ولا هذا أيضاً‏.‏

قال فأطرقت ملياً ثم رفعت رأسي فقلت‏:‏ يا أمير المؤمنين قد وجدت له مما هو فيه مخرجاً‏.‏

قال وما هو قلت‏:‏ خبر أبي الجوزاء حدثنا أبو نعيم الفضل بن دكين قال حدثنا المعتمر بن سليمان عن أبي الجوزاء قال‏:‏ طلقت امرأتي في نفسي وأنا بالمسجد ثم انصرفت إلى منزلي فقالت لي امرأتي‏:‏ طلقتني يا أبا الجوزاء‏!‏ قلت من أين لك هذا قالت حدثتني به جارتي الأنصارية قلت‏:‏ ومن أين لها هذا قلت ذكرت أن زوجها خبرها بذلك قال‏:‏ فغدوت على ابن عباس رضي الله عنهما فصصت عليه القصة فقال‏:‏ أما علمت أن وسواس الرجل يحدث وسواس الرجل فمن هنا يفشو السر فضحك المتوكل وقال إلي يا فتح‏!‏ فصب عليه خلعة وحمله على فرس وأمر له بمال وأمر لي بدونه فانصرفت إلى منزلي وقد شاطرني الفتح فيما أخذ فصار إلي الأكثر‏.‏

قال أبو نعيم وكان في نفسي من حديث أبي الجوزاء شيء حتى حدثني حمزة بن حبيب الزيات‏.‏

قال‏:‏ خرجت سنة أريد مكة فبينا أنا في الطريق إذ ضلت راحلتي فخرجت أطلبها فإذا أنا باثنين قد قبضا علي أحس حسهما ولا أرى شخصهما بل أسمع كلامهما فأخذاني إلى شيخ قاعد وهو حسن الشيبة فسلمت عليه فرد علي السلام فأفرخ روعي‏.‏

ثم قال من أين وإلى أين قلت من الكوفة إلى مكة‏.‏

قال‏:‏ ولم تخلفت عن أصحابك قلت ضلت راحلتي فجئت أطلبها فرفع رأسه إلى قوم عنده وقال‏:‏ أنيخوا راحلته فأنيخت بين يدي‏.‏

ثم قال‏:‏ تقرأ القرآن قلت نعم‏.‏

قال فاقرأ فقرأت حم الأحقاف حتى أتيت ‏"‏ وإذ صرفنا إليك نفراً من الجن ‏"‏ فقال مكانك أتدري كم كانوا قلت لا‏.‏

قال كنا أربعة‏:‏ وكنت أنا المخاطب عن النبي صلى الله عليه وسلم لهم فقلت‏:‏ ‏"‏ يا قومنا أجيبوا داعي الله ‏"‏ ثم قال أتقول الشعر قلت لا‏.‏

قال فترويه قلت نعم‏.‏

قال هاته فأنشدته قصيدة زهير بن أبي سلمى ‏"‏ أمن أم أوفى ‏"‏ فقال لمن هذه قلت لزهير بن أبي سلمى قال‏:‏ الجني قلت‏:‏ لا بل الإنسي‏.‏

قم رفع رأسه إلى قوم عنده فقال ائتوني بزهير فأتي بشيخ كأنه قطعة لحم فألقي بين يديه‏.‏

قال يا زهير‏.‏

قال لبيك‏!‏ قال ‏"‏ أمن أم أوفى ‏"‏ لمن هي قال لي‏.‏

قال هذا حمزة الزيات يذكر أنها لزهير بن أبي سلمى قال‏:‏ صدق وصدقت قال‏:‏ وكيف هذا قال هو إلفي من الإنس وأنا تابعه من الجن أقول الشيء فألقيه إليه في فهمه ويقول الشيء فآخذ عنه فأنا قائها في الجن وهو قائلها في الإنس‏.‏

قال أبو نعيم‏:‏ فصدق عندي حديث أبي الجوزاء أن وسواس الرجل يحدث وسواس الرجل‏.‏

  الفصل الثالث فيما يتصرف فيه صاحب هذا الديوان بتدبيره ويصرفه بقلمه

ومتعلق ذلك اثنا عشر أمراً الأمر الأول التوقيع والتعيين أما التوقيع فهو الكتابة على الرقاع والقصص بما يعتمده الكاتب من أمر الولايات والمكاتبات في الأمور المتعلقة بالمملكة والتحدث في المظالم وهو أمر جليل ومنصب حفيل إذ هو سبيل الإطلاق والمنع والوصل والقطع والولاية والعزل إلى غير ذلك من الأمور المهمات والمتعلقات السنية‏.‏

واعلم أن التوقيع كان يتولاه في ابتداء الأمر الخلفاء فكان الخليفة هو الذي يوقع في الأمور السلطانية وفصل المظالم وغيرهما‏.‏

الأمر الثاني قال أبو الفضل الصوري‏:‏ كان الواجب أن لا يقرأ الكتب الواردة على الملك إلا هو بنفسه ولما كان ذلك متعذراً علي لوفورها واتساع الدولة وكثرة المكاتبين من أصناف أرباب الخدم ووصول الكتب إليه من الأقطار الثانية والممالك المتباعدة وضيق الزمان عن تفرغه لذلك وجب تفويضه إلى متولي ديوان رسائله‏.‏

قال‏:‏ ولما كان حال متولي صاحب الديوان كذلك لاشتغاله بالحضور عند الملك في بعض الأوقات لقراءة الكتب الواردة وتقرير ما يجاب به عن كل منها مع شغله بتصفح ما يكتب في الديوان والمقابلة به احتاج أن يرد أمرها إلى كاتب يقوم مقامه على ما سيذكر في صفات كتاب الديوان فيما بعد إن شاء الله تعالى‏.‏

الامر الثالث نظرة فيما يتعلق برده الاجوبة عن الكتب الواردة على لسانه قال ابو الفضل الصوري‏:‏ الأمر الرابع نظره فيما تتفاوت به المراتب وقد كان هذا الباب في الزمن المتقدم في غاية الضبط والتحرير خصوصاً ف يزمن الخلفاء من بني العباس والفاطميين لا يزاد أحد في الألقاب على ما لقبه به الخليفة كبيراً كان أو صغيراً ولا يسمح له بزيادة الدعوة الواحدة فضلاً عما فوقها‏.‏

أما الآن فقد صار ذلك موكولاً إلى نظر صاحب ديوان الغناء ينزل كل أحد من المكاتبين وأرباب الولايات منزلته على ما يقتضيه مصطلح الزمان من علو وهبوط وحينئذ فعليه أن يحتاط في ذلك ويؤاخذ كتاب الإنشاء بالمشاحة فيه والوقوف عند ما حد لهم من غير إفراط ولا تفريط‏.‏

فقد قال صاحب مواد البيان‏:‏ إن الملوك تسمح ببدارت المال ولا تسمح بالدعوة الواحدة وناهيك بذلك تشديداً واحتياطاً‏.‏

الأمر الخامس نظره فيما يكتب من ديوانه وتصفحه قبل إخراجه من الديوان قال أبو الفضل الصوري‏:‏ على متولي الديوان أن يتصفح ما يكتب من ديوانه من الولايات والمناشير والمكاتبات إذ الكاتب غير معصوم من الخطأ واللحن وسبق القلم وعيب الإنسان يظهر منه لغيره ما لا يظهر له فما أبصره من لحن أو خطإ أصلحه ونبه كاتبه عليه فيحذر من مثله فيما يستأنفه فإن تكرر منه زجره عن ذلك وردعه عن العود إلى مثله إذ الغرض الأعظم أن يكون كل ما يكتب عن الملك كامل الفضيلة خطاً ولفظاً ومعنى وإعراباً حتى لا يجد طاعن فيه مطعناً فربما زل الكاتب في شيء فيزل بسببه متولي الديوان بل السلطان‏.‏

بل الدولة بأسرها‏.‏

قال‏:‏ فإذا فرغ من عرض الكتاب والوقوف عليه كتب عليه بخطه ما يدل على وقوفه عليه ليكون ملتزماً بدركه‏.‏

وكأنه يشير إلى ما تقدم من كلامه‏:‏ من أنه إن كان رسالة كتب عنوانها بخطه وإن كان منشوراً ونحوه كتب تاريخه بخطه‏.‏

ثم قال‏:‏ فإن كان متولي الديوان مشتغلاً بحضور مجلس السلطان ومخاطباته والتلقي عنه ولا يمكنه مع ضيق الزمان توفية كل ما يكتب بالديوان حق النظر فيه وتصفح ألفاظه ومعانيه نصب له في ذلك نائباً كامل الصنعة حسن الفطنة موثوقاً به فيما يأتي ويذر يقوم مقامه في ذلك‏.‏

قال‏:‏ وليس ذلك لأنه يغني عن نظر متولي الديوان ولكن ليتحمل عنه أكثر الكل ويصر إليه وقد قارب الصحة أو بلغها فيحصل على الراحة من تعبها ويصرف نظره إلى ما لعله خفي على المتصفح من دقائق المعاني وعويص المدارك فيقل زمن النظر عليه ويظفر بالغرض المطلوب في أقرب وقت‏.‏

نظره في أمر البريد ومتعلقاته وهو من أعظم مهمات السلطان وآكد روابط الملك قال زياد لحاجبه‏:‏ وليتك حجابي وعزلتك عن أربع‏:‏ هذا المنادي إلى الله في الصلاة والفلاح فلا تعوجنه عني ولا سلطان لك عليه وصاحب الطعام فإن الطعام إذا أعيد تسخينه فسد وطارق الليل فلا تحجبه فشر ما جاء به ولو كان خيراً ما جاء في تلك الساعة ورسول الثغر فإنه إن أبطأ ساعة أفسد عمل سنة فأدخله علي ولو كنت في لحافي‏.‏

وقد تقدم أن صاحب ديوان الإنشاء هو الذي يتلقى المكاتبات الواردة ويقرؤها على السلطان ويجاوب عنها فيجب على صاحب هذه الوظيفة أن يكون متيقظاً لما يرد على السلطان من نواحي ممالكه وقاصيات أعماله فإنه المعتمد عليه في ذلك والمعول عليه في أمره‏.‏

وقد كان أمر البريد في الزمن المتقدم والدوادارية يومئذ أمراء صغار وأجناد معدون لصاحب ديوان الإنشاء تخرج رسالة السلطان على لسان بعض الدوادارية بما يرسم به لمن يركب البريد في المهمات السلطانية وغيرها ويأتي بها إلى صاحب ديوان الإنشاء فيعلق رسالته على ما تقدم في تعليق الرسالة ويعمل بمقتضاها‏.‏

وكان للبريد ألواح من نحاس كل لوح منها بقدر راحة الكف أو نحوها منقوش على أحد وجهيه ألقاب السلطان وعلى الوجه الآخر‏:‏ ‏"‏ لا إله إلا الله محمد رسول الله أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون ‏"‏ وفي رقبته شرابة من حرير أصفر يجعلها راكب البريد في عنقه ويرسل اللوح على صدره علامة له فإذا حضرت الرسالة إلى كاتب السر دفع إلى البريدي لوحاً من تلك الألواح وكتب ل ورقة بخطه إلى أمير آخور البريد بالإصطبل السلطاني بما تبرز به الرسالة من الخيل ويكتب اسمه في آخر الكتاب الذي ينفذ معه بين السطور ويختم الكتاب ويسلم إليه ويكتب له ورقة طريق بالتوجه إلى جهة قصده وحمله على ما رسم له به من خيل البريد على ما سيأتي ذكره في الكلام على كتابة أوراق الطريق ويترك اسمه وتاريخ سفره والجهة التي توجه إليها والشغل الذي توجه بسببه بدفتر بالديوان‏.‏

فلما عظم أمر الدوادارية واستقر عند الدوادار كاتب م كتاب الدست يعلق عنه الرسالة على ما تقدم في الكلام على تعليق الرسالة رجع أكثر الأمر في ذلك إلى الدوادار وصار كاتب الدست الذي يخدمه يعلق الرسالة عنه بذلك كما يعلقها عنه في غيره على ما تقدم‏.‏

فإن كان البريد إلى جهة الشام كتب في ورقة لطيفة‏:‏ يرسم برسالة المقر المخدوم الفلاني أمير دوادار الناصري أوالظاهري مثلاً أعز الله تعالى أنصاره أن يكتب ورقة طريق شريفة باسم فلان الفلاني المرسوم له بالتوجه إلى الجهة الفلانية ويحمل على فرس أو فرسين أو أكثر من خيل البريد ثم يؤرخ‏.‏

وإن كان البريد إلى الوجه القبلي أو البحري أو غير ذلك كتب‏:‏ أن يكتب ورقة فرس بريد باسم فلان الفلاني من غير تعرض لذكر ورقة طريق وباقي الكلام على نحو ما تقدم ويؤرخ ويجهز تلك الورقة صحبة البريدي إلى صاحب ديوان الإنشاء فيخلد الورقة بديوانه عند دواداره في جملة أضابير الديوان ويكتب له في ورقة صغيرة أيضاً ما مثاله‏:‏ أمير آخور البريد المنصور يحمل فلان الفلاني على فرس واحد أو أكثر من خيل البريد المنصور عند توجهه إلى الجهة الفلانية ويؤرخ ويدفع إلى البريدي لندفعها إلى أمير آخور البريد تخلد عنده ويكتب اسم البريدي في آخر الكتاب على ما سيأتي في أول المكاتبات إن شاء الله تعالى ويختم الكتاب ويدفع إليه‏.‏

قلت‏:‏ وقد بطل الآن ما كان من أمر الألواح وتركت وصار كل بريدي عنده شرابة حرير صفراء يجعلها في عنقه من غير لوح‏.‏

اللهم إلا أن يتوجه البريدي إلى مملكة من الممالك النائية فيحتاج إلى الأبواب السلطانية من نيابة من نيابات المملكة في ورقة الطرين وخيل البريد‏.‏

ولصاحب ديوان الإنشاء التنبيه على مصالح مراكز خيل البريد في الديار المصرية وغيرها‏.‏

وسيأتي الكلام على مراكز البريد بمصر والشام مفصلة في موضعها إن شاء الله تعالى‏.‏

واعلم أنه يجب على الناظر في أمر البريد‏:‏ من الملك فيمن دونه أن يحتاط فيمن يرسله في الأمور السلطانية فيوجه في كل قضية من يقوم بكفايتها وينهض بأعبائها ويختص الملوك وأكابر النواب بأكابر البريد وعقلائهم وأصحاب التجارب منهم خصوصاً في المهمات العظيمة التي يحتاج الرسول فيها إلى تنميق الكلام وتحسين العبارة وسماع شبهة المرسل إليه ورد جوابه وإقامة الحجة عليه فإنه يقال‏:‏ يستدل على عقل الرجل بكتابه وبرسوله‏.‏

وقد قيل‏:‏ من الحق على رسول الملك أن يكون صحيح الفكرة والمزاج ذا بيان وعارضة ولين واستحكام منعة وأن يكون بصيراً بمخارج الكلام وأجوبته ومؤدياً للألفاظ عن الملك بمعانيها صدوقاً بريئاً من الطمع‏.‏

وعلى مرسله امتحانه قبل توجيهه في مقاصده ولا يرسل إلى الملوك الأجانب إلا من اختبره بتكرير الرسائل إلى نوابه وأهل مملكته‏.‏

فقد كان الملوك فيما سلف من الزمن إذا آثروا إرسال شخص لمهم قدموا امتحانه بإرساله إلى بعض خواص الملك ممن في قرار داره في شيء من مهماته ثم يجعل عليه عيناً فيما يرسل به من حيث لا يشعر فإذا أدى الرسول رسالته رجع بجوابها وسأل الملك عينه فإن طابق ما قاله الرسول ما أتى به من هو عين عليه وتكرر ذلك منه صارت له الميزة والتقدمة عند الملك ووجهه حينئذ في مهمات أموره‏.‏

وكان أردشير بن بابك آخر ملوك الفرس يقول‏:‏ حق على الملك الحازم إذا وجه رسولاً إلى ملك أن يردفه بآخر وإن وجه برسولين وجه بعدهما باثنين وإن أمكنه أن لا يجمع بين رسله في طريق ومن الحزم أن الرسول إذا أتاه برسالة أو كتاب في خير أو شر أن لا يحدث في ذلك شيئاً حتى يرسل مع رسول آخر يحكي له كتابه أو رسالته حرفاً حرفاً ومعنى معنى فإن الرسول ربما فاته بعض ما يؤمله فافتعل الكتب وغير ما شوفه به فأفسد ما بين المرسل والمرسل إليه‏:‏ من ملك أو نائب ونحهما وربما أدى ذلك إلى وقوع فتنة بني الملكين أو خروج النائب عن الطاعة وتفاقم الأمر بسبب ذلك وسرى إلى ما لا يمكن تداركه‏.‏

وقد حكي أن الإسكندر وجه رسولاً إلى بعض ملوك الشرق فجاء برسالة شك الإسكندر في حرف مها فقال له‏:‏ ويلك إن الملوك لا تخلو من مقوم ومسدد إذا مالت وقد جئتني برسالة صحيحة الألفاظ بينة المعاني وقد وجدت فيها حرفاً ينقضها أفعلى يقين أنت من هذا الحرف أم شاك فيه فقال بل على يقين منه أنه قاله‏.‏

فأمر الإسكندر أن تكتب الألفاظ حرفاً حرفاً ويعاد إلى الذي جاء ذلك الرسول من عنده مع رسول آخر فيقرأ عليه ويترجم له‏.‏

فلما وصل الرسول الثاني إلى ذلك الملك وقرأ عليه ما كتب إليه به الإسكندر في أمر ذلك الرسول أنكر ذلك الحرف الذي أنكره الإسكندر وقال للمترجم‏:‏ ضع يدك على هذا الحرف فوضعها فأمر أن يعلم بعلامة وقال‏:‏ إني أجل ما وصل عن الملك أن أقطعه بالسكين ولكن ليضع هو فيه وفي قائله ما شاء‏.‏

وكتب إلى الإسكندر‏:‏ إن من أس المملكة صحة لهجة الرسول إذا كان عن لسانه ينطق والى أذنه يؤدي‏.‏

فلما عاد الرسول إلى الإسكندر دعا برسوله الأول وقال‏:‏ ما حملك على كلمة قصدت بها إفساد ما بين ملكين فأقر أن ذلك كان منه لتقصير رآه من الملك فقال له الإسكندر‏:‏ فأراك قد سعيت لنفسك لا لنا‏!‏ فاتك ما أملت مما لا تستحقه على من أرسلت إليه فجلعت ذلك ثأراً توقعه في الأنفس الخطيرة الرفيعة‏!‏ ثم أمر بلسانه فنزع من قفاه‏.‏

وكأنه رأى إتلاف نفس واحدة أولى من إتلاف نفوس كثيرة بما كان يوقعه بين الملكين من العداوة ويثير من الإحن وضغائن الصدور‏.‏

وقد كان أردشير بن بابك يقول‏:‏ كم من دم سفكه الرسول بغير جله‏!‏ وكم من جيوش هزمت وقتل أكثرها‏!‏ وكم حرمة انتهكت‏!‏ وكم مال نهب وعقد نقض بخيانة الرسل وأكاذيب ما يأتون به‏!‏‏.‏

الأمر السابع نظره في أمر أبراج الحمام ومتعلقاته سأتي فيما بعد إن شاء الله تعالى أن بالديار المصرية أبراجاً للحمام الرسائلي يحمل البطائق في أجنحته من مكان إلى مكان منها برج بقلعة الجبل وأبراج بطريق الشام بمدينة بلبيس وأبراج بطريق الإسكندرية‏.‏

وكان قبل ذلك يدرج إلى قوص ومنها إلى أسوان وعيذاب ما يقطع ذلك الآن‏.‏

وحمام كل برج ينقل منه ف يكل يوم إلى البرج الذي يليه ليطلب برجه الذي هو مستوطنه إذا أرسل‏.‏

فإذا عرض أمر مهم أو ورد بريد أو غيره ممن يحتاج إلى مطالعة الأبواب السلطانية به إلى مكان من الأمكنة التي فيها برج من أبراج الحمام كتب وإليها المتحدث فيها بذلك للأبواب السلطانية وبعث بها على أجنحة الحمام‏.‏

وقد جرت العادة أن تكتب بطاقتان وتؤرخان بساعة كتابتهما من النهار ويعلق منها في جناح طائر من الحمام الرسائلي ويرسلان ولا يكتفى بواحد لاحتمال أن يعرض له عارض يمنعه من الوصل إلى مقصده‏.‏

فإذا وصل الطائر إلى البرج الذي وجه به إليه أمسكه البراج وأخذ البطاقة من جناحه وعلقها بجناح طائر من حمام البرج الذي يليه أي من المنقول إلى ذلك البرج وعلى ذلك حتى ينتهي إلى برج القلعة فيأخذ البراج الطائر والبطاقة في جناحه ويحضره بين يدي الدوادار الكبير فيعرض عليه فيضع البطاقة عن جناحه بيده‏:‏ فإن كان الأمر الذي حضرت البطاقة بسببه خفيفاً لا يحتاج إلى مطالعة السلطان به استقل الدوادار به وإن كان مهماً يحتاج إلى إعلام السلطان به استدعى كاتب السر وطلع لقراءة البطاقة على السلطان كما يفعل في المكاتبات الواردة‏.‏

وكذلك الحكم فيما يطرأ من المهمات بالأبواب السلطانية فإنه يوجه بالحمام من برج القلعة إلى الجهة المتعلقة بذلك المهم‏.‏

وفي معنى ذلك كل نيابة من النيابات العظام بالممالك الشامية كدمشق و حلب وطرابلس ونحوها مع ما تحتها من النيابات الصغار والولايات على ما سيأتي ذكره في مواضعه إن شاء الله تعالى‏.‏

الأمر الثامن نظره في أمور الفداوية وهم طائفة من الإسماعيلية المنتسبين إلى إسماعيل بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين الحسين السبط بن علي أبي طالب كرم الله وجهه من فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

وهم فرقة من الشيعة معتقدهم معتقد غيرهم من سائر الشيعة أن الإمامة بعد النبي صلى الله عليه وسلم انتقلت بالنص إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه ثم إلى ابنه الحسن ثم إلى أخيه الحسين ثم تنقلت في بني الحسني إلى جعفر الصادق ثم هم يدعون انتقال الإمامة من جعفر الصادق إلى ابنه إسماعيل ثم تنقلت في بنيه‏.‏

وسموا الفداوية لأنهم يفادون بالمال على من يقتلونه‏.‏

ويسمون في بلاد العجم بالباطنية لأنهم يبطنون مذهبهم ويخفونه وتارة بالملاحدة لأن مذهبهم كله إلحاد‏.‏

وهم يسمون أنفسهم أصحاب الدعوة الهادية‏.‏

وسيأتي الكلام عند ذكر تحليفهم في الكلام على الأيمان إن شاء الله تعالى‏.‏

وكانوا في الزمن المتقدم قد علت كلمتهم واشتدت شكيمتهم وقويت شوكتهم واستولوا على عدة قلاع ببلاد العجم وبلاد الشأم‏.‏

فأما بلاد العجم فكان بداية قوتهم وانتشار دعوتهم في دولة السلطان ملكشاه السلجوقي في المائة الخامسة‏.‏

وذلك أنه كان من مقدميهم رجل اسمه عطاش فنشأ له ولد يسمى أحمد فتقدم في مذهبهم وارتفع شأنه فيهم وألم به من في بلاد العجم منهم فغلب على قلعة بأصبهان كان قد بناها السلطان ملكشاه المتقدم ذكره وقلعة بالطالقان تعرف بقلعة الموت وكان من تلامذته رجل يقال له الحسن بن الصباح ذو شهامة وتقدم في عليم الهندسة والحساب والنجوم والسحر فاتهمه بالدعوة للخلفاء الفاطميين وهم من جملة طوائف الإسماعيلية ففر الحسن بن الصباح منه هارباً إلى مصر وبها يومئذ المستنصر بالله خامس خلفاء الفاطميين فأكرمه وأحسن نزله وأمره بأن يخرج إلى البلاد للدعوة إلى إمامته فأجابه إلى ذلك وسأله من الإمام بعده فقال إنه ابني نزار وهو الذي تنسب إليه النزارية منهم‏.‏

فخرج ابن الصباح من مصر وسار إلى الشام والجزيرة وديار بكر وبلاد الروم يدعوا إلى إمامة المستنصر ثم ابنه نزار من بعده وسار إلى خراسان وجاوزها إلى ما وراء النهر ودخل سنة ثلاث وثمانين وأربعمائة ثم استولى على قلعة أصبهان واستضاف إليها عدة قلاع بتلك النواحي في سنة تسع وتسعين وأربعمائة وقويت شوكة هذه الطائفة بتلك البلاد وعظم أمرها وخافها الملوك وسائر الناس وبقي ابن الصباح على ذلك حتى مات في سنة ثمان عشرة وخمسمائة‏.‏

وتنقلت تلك القلاع بعده حتى صار أمرها إلى شخص من عقبه يسمى جلال الدين بن حسن ألكيا الصباحي فأظهر التوبة في سنة سبعه وخمسين وخمسمائة وبقي على ذلك إلى سنة ثمان وستمائة فأظهر شعائر الإسلام وكتب إلى جميع قلاع الإسماعيلية ببلاد العجم والشام فأقيمت فهيا وبقي حتى توفي سنة ثمان عشرة وستمائة وقام بعده ابنه علاء الدين محمد وتداول مقدموهم تلك القلاع إلى أن خرج هولاكو على بلاد العجم في سنة ست وخمسين وستمائة باستصراخ أهل تلك البلاد من عيثهم وفسادهم فخرب قلاعهم عن آخرها‏.‏

وأما بلاد الشأم فكان أول قوتهم بها أنه دخل منهم إلى الشام رجل يسمى بهرام بعد قتل خاله إبراهيم الأسدابادي ببغداد في أيام تاج الملوك بوري صاحب الشام وصار إلى دمشق ودعا إلى مذهبه بها وعاضده سعيد المردغاني وزير بروري حتى علت كلمته في دمشق وسلم له قلعة بانياس فعظم أمر بهرام وملك عدة حصون بالجبال أظنها القلاع المعروفة بهم إلى الآن وهي سبع قلاع بين حماه وحمص متصلة بالبحر الرومي على القرب من طرابلس وهي‏:‏ مصياف والرصافة والخوابي والقدموس والكهف والعليقة والمينقة ومن هنا سميت بقلاع الدعوة‏.‏

وكان آخر الأمر من بهرام أنه قتل في حرب جرت بينه وبين أهل وادي التيم وقام مقامه بقلعة بانياس رجل منهم اسمه إسماعيل وأقام الوزير المردغاني عوض بهرام بدمشق رجلاً منهم اسمه أبو الوفاء فعظم أمره بدمشق حتى صار الحكم له بها وهم بتسليمها للفرنج على أن يسلموا له صور عوضاً منها فشعر به بوري صاحب دمشق فقتله وقتل وزيره المردغاني ومن كان بدمشق من هذه الطائفة ولم يزل أمرهم يتنقل بالشام لواحد بعد واحد من مقدميهم إلى أن كان المقدم علهيم في أيام السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب أبو الحسن راشد الدين سنان البصري وكان بينهم وبين السلطان صلاح الدين مباينة ووثبوا عليه مرات ليقتلوه فلم يظفروا بذلك إلى أن حاصر قلاعهم في سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة وضيق عليهم فسألوه الصفح عنهم فأجابهم إلى ذلك‏.‏

وبقي راشد الدين سنان مقدمأً عليهم حتى مات في سنة ثمان وثمانين وخمسمائة‏.‏

قال في مسالك الأبصار‏:‏ وهم يعتقدون أن كل من ملك مصر كان مظهراً لهم ولذلك يتولونه ويرون إتلاف نفوسهم في طاعته لما ينتقل إليه من النعيم الأكبر بزعمهم‏.‏

قال‏:‏ ولصاحب مصر بمشايعتهم مزية يخافه بها أعداؤه لأنه يرسل منهم من يقتله ولا يبالي أن يقتل بعده ومن بعثه إلى عدو له فجبن عن قتله قتله أهله إذا عاد إليهم و إن هرب تبعوه وقتلوه‏.‏

قلت‏:‏ وكانوا في الزمن المتقدم يسمون كبيرهم المتحدث عليهم تارة مقدم الفداوية وتارة شيخ الفداوية‏.‏

وأما الآن فقد سموا أنفسهم بالمجاهدين وكبيرهم بأتابك المجاهدين وقد كانت السلاطين في الزمن المتقدم تمنع هؤلاء من مخالطة الناس فلا يخرجون من بلادهم إلى غيرها إلا من رسم له بالخروج لما يتعلق بالسلطان ولا يمكن أحد من التجار م الدخول إلى بلادهم لشراء قماش وغيره‏.‏

و كان يكتب بذلك مراسيم من ديوان الإنشاء بالأبواب السلطانية ويوجه بها لنائب الشام المحروس‏.‏

وسيأتي إيراد شيء من نسخ هذه المراسيم عند ذكر مرسوم أتابكهم في الولايات إن شاء الله تعالى‏!‏‏.‏

الأمر التاسع نظره في أمر العيون والجواسيس وهو جزء عظيم من أس الملك وعماد المملكة‏.‏

وعلى صاحب ديوان الإنشاء مداره وإليه رجوع تدبيره واختيار رجاله وتصريفهم‏.‏

فيجب عليه الاحتياط في أمر الجواسيس أكثر ما يحتاط في أمر البريدية والرسل‏:‏ لأن الرسول قد يتوجه إلى الصديق وقد يتوجه إلى العدو والجاسوس لا يتوجه إلا إلى العدو وإذا وثق بجاسوسه فإنه إلى ما يأتي به صائر وعليه معتمد وبه فاعل‏.‏

وقد شرطوا في الجاسوس شروطاً‏:‏ منها أن يكون ممن يوثق بنصيحة وصدقه فإن الظنين لا ينتفع بخبره وإن كان صادقاً لأنه ربما أخبر بالصدق فاتهم فيه فتفوت فيه المصلحة‏.‏

بل ربما آثر الضرر لمن هو عين له إذ المتهم فيه فتفوت فيه المصلحة‏.‏

بل ربما آثر الضرر لمن هو عين له إذ المتهم في الحقيقة عين عليك لا عون لك‏.‏

وكيف يكون المتهم أميناً‏!‏ لا سيما فيما يصرف فيه جليل الأموال من القضايا العظيمة إن سلمت نفسيات النفوس‏.‏

ومنها أن يكون ذا حدس صائب وفراسة تامة‏:‏ ليدرك بوفور عقله وصائب حدسه من أحوال العدو بالمشاهدة ما كتموه عن النطق به ويستدل فيما هو فيه ببعض الأمور على بعض فإذا تفرس في قضية ولاح له أمر آخر يعضدها قوي بحثه فيها بانضمام بعض القرائن إلى بعض‏.‏

ومنها أن يكون كثير الدهاء والحيل والخديعة‏:‏ ليتوصل بدهائه إلى كل موصل ويدخل بحيلته في كل مدخل ويدرك مقصده من أي طريق أمكنه‏.‏

فإنه متى كان قاصراً في هذا الباب أوشك أن يقع ظفر العدو به أو يعود صفر اليدين من طلبته‏.‏

ومنها أن يكون له دربة بالأسفار ومعرفة بالبلاد التي يتوجه إليها‏:‏ ليكون أغنى له عن السؤال عنها وعن أهلها فربما كان في السؤال تنبه له وتيقظ لأمره فيكون ذلك سبباً لهلاكه بل ربما وقع في العقوبة وسئل عن حال ملكه فدل عليه وكان عيناً عليه لا له‏.‏

ومنها أن يكون عارفاً بلسان أهل البلاد التي يتوجه إليها ليلتقط ما يقع من الكلام فيما ذهب بسببه ممن يخالطه من أهل تلك المملكة وسكان البلاد العالمين بأخبارها ولا يكون مع ذلك ممن يتهم بممالأة أهل ذلك اللسان من حيث إن الغالب على أهل كل لسان أتحاد الجنس والجنسية علة الضم‏.‏

ومنها أن يكون صبوراً على ما لعله يصير إليه من عقوبة إن ظفر به العدو بحيث لا يخبر بأحوال ملكه ولا يطلع على وهن في مملكته فإن ذلك لا يخلصه من يد عدوه ولا يدفع سطوته عنه‏.‏

بل ولا يعرف أنه جاسوس أصلاً فإن ذلك مما يحتم هلاكه ويفضي إلى حتفه‏:‏ إلى غير ذلك من الأمور التي لا يسع استيعابها‏.‏

فإذا وجد من العيون والجواسيس من هو مستكمل لهذه الشرائط وما في معناها فعليه أن يظهر لهم الود والمصافاة ولا يطلع أحداً منهم في زمن تصرفه له أنه يتهمه ولا أنه غير مأمون لديه فربما أداه ذلك في أضيق الأوقات أن يكون عيناً عليه فإن الضرورة قد تلجئه لمثل ذلك خصوصاً إن جذبه إلى ذلك جاذب يستميله عنه مع ما هو عليه من الضرورة والضرورة قد تحمل الإنسان على مفاسد الأمور ويجزل لهم الإحسان والبر ولا يغفل تعاهدهم بالصلات قبل احتياجه إليهم‏.‏

ويزيد في ذلك عند توجههم إلى المهمات ويتعهد أهليهم في حضورهم وغيبتهم ليملك بذلك قلوبهم ويستصفي به خواطرهم‏.‏

وإن قضي على من بعثه منهم بقضاء أحسن إلى ورد بنفسه عليه ليكون ذلك داعياً لغيره على طلبة وهو ثقة فلا يستوحش منه بل يوليه الجميل ويعامله بالإحسان فإنه إن لم ينجع المرة نجع الأخرى‏.‏

وعليه أن يحترز عن أن تعرف جواسيسه بعضهم بعضاً لا سيما عند التوجه للمهمات‏.‏

وإن استطاع أن لا يجعل بينه وبينهم واسطة فعل وإن لم يمكنه ذلك جعل لكل واحد منهم رجلاً من بعض خاصته يتولى إيصاله إليه فإنه إذا علم بعضهم ببعض ربما أظهره بخلاف ما إذا اختص الواجد بالسر‏.‏

وأيضاً فإنه لا يؤمن اتفاقهم عليه وممالأتهم لعدوه‏.‏

وكذلك يحترز عن تعرف أحد من عسكره عيونه وجواسيسه فإن ذلك ربما يؤدي إلى انتشار السر والعود بالمفسدة‏.‏

وعليه أن يصغي إلى ما يلقيه إليه كل من جواسيسه وعيونه وإن اختلفت أخبارهم ويأخذ بالأحوط فيما يؤديه إليه اجتهاده من ذلك ولا يجعل اختلافهم ذنباً لأحد منهم فقد تختلف أخبارهم وكل منهم صادق فيما يقوله إذ كل واحد قد يرى ما لا يرى الآخر ويسمع ما لا يسمعه‏.‏

وإذا عثر على أحد من جواسيسه بزلة فليسترها عنه وعليه ولا يعاقبه على ذلك ولا يوبخه عليه فإن وبخه ففي خلوة بلطف مذكراً له أمر الآخرة وما في ممالأة العدو والخيانة من الوبال في الآخرة‏.‏

ولا بأس بأن يجري له ذكر ما عليه من مصافاته ومودته وأنه مع العدو على غرر لا يدري ما هو صائر إليه فإن ذلك أدعى لاستصلاحه‏.‏

ولا شك أن استصلاحه إما في الوقت أو فيما بعد خير من ثبات فساده فربما أداه ذلك إلى ممالأة العدو ومباطنته لا سيما إذا كان العدو معروفاً بالحلم والصفح وكثرة البذل والعطاء‏.‏

وإذا حضر إليه جاسوس بخبر عن عدوه استعمل فيه التثبت ودوام البشر ولا يظهر تهافتاً عليه تظهر معه الخفة ولا إعراضاً عنه يفوت معه قدر المناصحة ولا يظهر له كراهة ما يأتيه به من الأخبار المكروهة فإن ذلك مما يستدعي فيه كتمان السر عنه فيما يكره فيؤدي إلى الإضرار به‏.‏

وقد حكي عن بعض الملوك أنه كان يعطي من يأتيه بالأخبار المكروهة من الجواسيس أكثر مما يعطي من يأتيه بالأخبار السارة‏.‏

واعلم أنه لا يمكن أحداً ممن يمنع بلاده أو عسكره من جواسيس عدوه فيجب الاحتراز منهم بكتمان السر وستر العورة ما أمكنه على أنه ربما دعت الضرورة في بعض الأحيان إلى أن يعرف الملك عدوه بعض أموره على حقيقته لأمر يحاول به مكيدته‏.‏

والطريق في ذلك أن يتلطف إلى أن يصير جاسوس عدوه جاسوساً له بأن يتودد إليه بالاستمالة والبر وكثرة البذل حتى يستخرج نصيحته فحينئذ يلقي إليه ما أراد تبليغه إلى صاحبه الأول مما فيه المكيدة فيوصله إليه فيكون أقرب لقبوله من بلوغه له من غيره ممن يتهمه‏.‏

الأمر العاشر نظره في أمور القصاد الذين يسافرون بالملطفات من الكتب عند تعذر وصول البرد إلى ناحية من النواحي وهو من أعظم مهمات السلطنة وآكدها‏.‏

وقد ذكر ابن الأثير في تاريخه‏:‏ أن أول من اتخذ السعاة من الملوك معز الدولة بن بويه أول ملوك الديلم بعد الثلاثين والثلثمائة‏:‏ وكان سبب ذلك أنه كان ببغداد وأخوه ركن الدولة ابن بويه بأصبهان وما معها فأراد معز الدولة سرعة إعلام أخيه ركن الدولة بتجددات الأخبار فأحدث السعاة وانتشى في أيامه ساعيان اسم أحدهما فضل والآخر مرعوش وكان أحدهما ساعي السنة والآخر ساعي الشيعة وتعصب لكل منهما فرقة وبلغ من شأنهما أن كل واحد منهما كان يسير في كل يوم نيفاً وأربعين فرسخاً وأستمر حكم السعاة ببغداد إلى زماننا حتى إن منهم ساعيين لركاب السلطان يمشيان أمامه في المواكب وغيرها على قرب‏.‏

قلت‏:‏ وقد رأيتهما في خدمة السلطان أحمد بن أويس صاحب بغداد حين قدم مصر في دولة الظاهر برقوق فاراً من تمر‏.‏

أما الديار المصرية فإنه لا يتعانى ذلك عندهم إلا خفاف الشباب من مكارية الدواب ونحوهم ممن يعتاد شدة العدو إلا أنه إذا طرأ مهم سلطاني يقتضي إيصال ملطف مكاتبة عن الأبواب السلطانية إلى بعض النواحي وتعذر إيصاله على البريد لحيلولة عدو في الطريق أو انقطاع خيل البريد من المراكز السلطانية لعارض انتدب كاتب السر بأمر السلطان من يعرف بسرعة المشي وشدة العدو للسفر ليوصل ذلك الملطف إلى المكتوب إليه والإتيان بجوابه‏.‏

وربما كتب الكتابان فأكثر إلى الشخص الواحد في المعنى الواحد ويجهز كل منهما صحبة قاصد مفرد خوف أن يعترض واحد في المعنى الواحد ويجهز كل منهما صحبة قاصد مفرد خوف أن يعترض واحد فيمضي الآخر إلى مقصده كما تقدم في بطائق الحمام الرسائلي‏.‏

وقد أخبرني بعض من سافر في المهمات السلطانية من هؤلاء أنهم في الغالب عند خوف العدو يمشون ليلاً ويكمنون نهاراً وإذا مشوا في الليل يأخذون جانباً عن الطريق الجادة يكون بين كل اثنين منهم مقدار رمية سهم حتى لا يسمع لهم حس فإذا طلع عليهم النهار كمنوا متفرقين مع مواعدتهم على مكان يتلاقون فيه في وقت المسير‏.‏

الأمر الحادي عشر نظره في أمر المناور والمحرقات أما المناور فسيأتي أنه في الزمان المتقدم عند وقوع الحروب بين التتار وأهل هذه المملكة كان بين الفرات بآخر الممالك الشامية وإلى قريب من بلبيس من أعمال الديار المصرية أمكنة مرتبة برؤوس جبال عوال بها أقوام مقيمون فيها لهم رزق على السلطان من إقطاعات وغيرها إذا حدث حادث عدو من بلاد التتار واتصل ذلك بمن بالقلاع المجاورة للفرات من الأعمال الحلبية‏:‏ فإن كان ذلك في الليل أوقدت النار بالمكان المقارب للفرات من رؤوس تلك الجبال فينظره من بعده فيوقد النار فينظره من بعده فيوقد النار وهكذا حتى ينتهي الوقود إلى المكان الذي بالقرب من بلبيس في يوم أو بعض يوم فيرسل بطاقته على أجنحة الحمام بالإعلام بذلك فيعلم أنه قد تحرك عدو في الحملة فيؤخذ في التأهب له حتى تصل البرد بالخبر مفصلاً‏.‏

وأما المحرقات فسيأتي أنه كان أيضاً قوم من هذه المملكة مرتبون بالقرب من بلاد التتار يتحيلون على إحراق زروعهم بأن تمسك الثعالب ونحوها وتربط الخرق المغموسة في الزيت بأذناب تلك الثعالب وتوقد بالنار وترسل في زروعهم إذا يبست فيأخذها الذعر من تلك النار المربوطة بأذنابها فتذهب في الزروع آخذة يميناً وشمالاً فما مرت بشيء منه إلا أحرقته وتواصلت النار من بعضها إلى بعض فتحرق المزرعة عن آخرها‏.‏

قلت‏:‏ وهذان الأمران قد بطل حكمهما من حين وقوع الصلح بين ملوك مصر وملوك التتار على ما سيأتي ذكره في موضعه إن شاء الله تعالى‏.‏

الأمر الثاني عشر نظره في الأمور العامة مما يعود نفعه على السلطان والمملكة قد تقدم في أول هذا الفصل في الكلام على بيان رتبة صاحب ديوان الإنشاء من كلام صاحب مواد البيان أنه ليس في منزلة خدم السلطان والمتصرفين في مهماته أخص منه من حيث إنه أول داخل على الملك وآخر خارج عنه وأنه لا غنى به عن مفاوضته في آرائه والإفضاء إليه بمهماته وتقريبه في نفسه في آناء ليلة وساعات نهاره وأوقات ظهوره للعامة وخلواته وإطلاعه على حوادث دولته ومهمات مملكته وأنه لا يثق بأحد من خاصته ثقته به ولا يركن إلى قريب ولا نسيب ركونه إليه ومن كان بهذه الرتبة من السلطان والقرب منه وجب عليه أن لا يألوه نصحاً فيما يعلم أنه أصلح لمملكته وأعمر لبلاده وأرغم لأعاديه وحساده وأثبت لدولته وأقوى لأسباب مملكته‏.‏

فقد حكي عن علي بن زيد الكاتب‏:‏ أنه صحب بعض الملوك فقال للملك‏:‏ أصحبك على ثلاث خلال قال وما هي قال لا تهتك لي ستراً ولا تشتم لي عرضاً ولا تقبل في قول قائل حتى تستبرئ‏.‏

فقال له الملك‏:‏ هذه لك عندي فمالي عندك قال‏:‏ لا أفشي لك سراً ولا أؤخر عنك نصيحة ولا أوثر عليك أحداً‏.‏

قال‏:‏ نعم الصاحب المستصحب أنت‏!‏‏.‏

فإذا انتهى إلى صاحب الديوان خبر يتعلق بجلب منفعة إلى المملكة أو دفع مضرة عنها أطلع السلطان عليه في أسرع وقت وأعجله قبل فوات النظر فيه ونحله فيه صائب رأيه ثم رد النظر فيه إلى رأي السلطان ليخرج عن عهدته‏.‏

وإن ارتاب في خبر المخبر أحضره معه إلى السلطان ليشافهه فيه حتى يكون بريئاً عن تبعته ولا يهمل تبليغ خبره بمجرد الريبة لاحتمال صحته في نفس الأمر فيلحق بواسطة إهماله ضرر لا يمكن تداركه‏.‏

وكذلك الحال في سائر ما يرجع إلى صلاح المملكة وحسن تدبيرها‏.‏

  الفصل الرابع في ذكر وظائف ديوان الإنشاء بالديار المصرية وما يلزم رب كل وظيفة منهم

فيما كان الأمر عليه في الزمن القديم واستقر عليه الحال في زماننا‏.‏

أما في الزمن القديم فقد ذكر أبو الفضل الصوري في مقدمة تذكرته أن أرباب الوظائف فيه على ضربين‏:‏

  الضرب الأول الكتّاب

وقد عداهم إلى سبع كتّاب الأول كاتب ينشئ ما يكتب من المكاتبات والولايات تتصدى للإنشاء ملكته وغريزة طبعه‏.‏

قال‏:‏ ويجب أن يكون هذا الكاتب لاحقاً بصفات متولي الديوان بحيث يكون كاملاً في الصفات مستوفياً لشروط الكتابة عارفاً بالفنون التي يحتاج إليها الكاتب مشتملاً على التقدم في الفصاحة والبلاغة قوي الحجة في المعارضة واسع الباع في الكلام بحيث يقتدر بملكته على مدح المذموم وذم المحمود وصرف عنان القول إلى حيث شاء والإطناب في موضع الإطناب والإيجاز في موضع الإيجاز فإنه أجل كتاب الديوان وأرفعهم درجة لأنه يتولى الإنشاء من نفسه وتلقى إليه الكلمة الواحدة والمعنى المفرد فينشئ على ذلك كلاماً طويلاً ويأتي منه بالعبارة الواسعة وهو لسان الملك المتكلم عنه فمهما كان كلامه أبدع وفي النفوس أوقع عظمت رتبة الملك وارتفعت منزلته على غيره من الملوك‏.‏

وهو الذي ينشئ العهود والتقاليد في الولايات والكتب في الحوادث الكبار والمهمات العظيمة التي تتلى فيها الكتب على صياصي المنابر ورؤوس الأشهاد‏:‏ فقد حكي أن يزيد بن الوليد كتب إلى إبراهيم بن الوليد وقد هم بالعصيان‏:‏ أما بعد فإني أراك تقدم رجلاً وتؤخر أخرى فاعتمد على أيهما شئت والسلام فكان سبباً لإقلاعه عما هم به‏.‏

الثاني كاتب يكتب مكاتبات الملوك عن ملكه وقد شرطه فيه مع ما شرط في المتصدي للإنشاء المتقدم ذكره - إن كان هو الذي ينشئ المكاتبات بنفسه عن الملك - أن يكون على دين الملك الذي يكتب عنه ومذهبه لما يحتاج إليه في مكاتبة الملك الخالف من الاحتجاج على صحة عقيدته ونصرة مذهبه وإقامة الدلائل على صحة ذلك ولن يحتج للملة أو المذهب من اعتقد خلافه بل المخالف إنما تبدو له مواضع الطعن لا مواضع الحجاج‏.‏

وكذلك أن يكون من علو الهمة وقوة العزم وشرف النفس بالمحل الأعلى والمكان الأرفع فإنه يكاتب عن ملكه وكل كاتب فإنه يجره طبعه وجبلته وخيمه إلى ما هو عليه من الصفات‏.‏

فكلما كان الكاتب أقوى جانباً وأشد عزماً وأعلى همة كان على التفخيم والتعظيم والتهويل والترغيب والترهيب أقدر وكلما نقص من ذلك نقص من كتابته بقدره وأن يكون عالماً بقدر طبقة المكتوب إليه في معرفة اللسان العربي فيخاطب كل قوم على قدر رتبتهم في ذلك وما يعرف من فهمهم‏.‏

الثالث كاتب يكتب أهل الدولة وكبرائها وولاتها ووجوهها من النواب والقضاة والكتاب والمشارفين والعمال وإنشاء تقليدات ذوي الخدم الصغار والأمانات وكتب الأيمان والقسامات‏.‏

قال‏:‏ وهي وإن كانت دون الرتبتين المتقدمتين فهي جليلة الخطر عالية القدر ويجب أن يكون لاحقاً برتب الخدمة منها وأن يكون مأموناً على الأسرار كاف اليد نزه النفس عن العرض الدنيوي لأنه يطلع على أكثر ما يجري في الدولة ويعلم بالوالي قبل توليه والمصروف قبل صرفه ويكون مع ذلك سريع اليد في الكتابة حسن الخط إذ كان هذا الفن أكثر ما يستعمل ولا يكاد يقل في وقت من الأوقات‏.‏

الرابع كاتب يكتب المناشير والكتب اللطاف والنسخ قال‏:‏ وهذه المنزلة لاحقة بالمنزلة التي قبلها وكأنها جزء منها‏.‏

ويجب أن يكون هذا الكاتب مأموناً كتوماً للسر فيه من الأدب ما يأمن معه من الخطإ واللحن في لفظه وخطه ويكون حسن الخط أو بالغاً فيه القدر الكافي‏.‏

ولكن لما كان هذا الشغل واسعاً وهو أكثر عمل الديوان والذي لا ينفك منه لم يكد يستقل به رجل واحد فيحاج إلى معاضدته بآخر يكون دونه في المنزلة ويجعل برسم تسطير المناشير والفصول المتقدمة إلى المقيمين بالحضرة وكتابة تذاكر المستخدمين ونقلها مما يمليه صاحب الديوان ويصدر عنه في نسخ تكون مخلدة فيه لا تغادر المبيضة بحرف لتكون موجودة متى احتيج إليها‏.‏

الخامس كاتب يبيض ما ينشئه المنشئ مما يحتاج إلى حسن الخط كالعهود والبيعات ونحوها‏.‏

قال الصوري‏:‏ لما كانت البلاغة التامة التي يصلح صاحبها للإنشاء وحسن الخط قلما يجتمعان في أحد وجب أن يختار للديوان مبيض برسم الإنشاءات والسجلات والتقليدات ومكاتبات الملوك وأن يكون حسن الخط إلى الغاية الموجودة بحيث لا يكاد يوجد في وقته أحسن خطاً منه لتصدر الكتب عن الملك بالألفاظ الرائقة والخط الرائع فإن ذلك أكمل للملكة وأكثر تفخيماً عند من يكاتبه وتعظيماً لها في صدره‏.‏

ويجب أن يكون مع ذلك في الأمانة وكتمان السر ونزاهة النفس على ما تقدم‏.‏

السادس كاتب يتصفح ما يكتب في الديوان قد تقدم أنه لما كان كل واحد ممن تقدم ذكره غير معصوم من السهو والزلل والخطإ واللحن وعثرات القلم‏.‏

وكل واحد يتغطى عنه عيب نفسه ويظهر له عيب غيره وكان زمن متولي الديوان أضيق من أن يوفي بكل ما يكتب بديوانه حق النظر‏.‏

وكان القصد أن يكون كل ما يكتب عن الملك كامل الفضيلة خطا ولفظاً ومعنى وإعراباً حتى لا يجد طاعن فيه مطعناً وجب أن يستخدم متولي الديوان معيناً يتصفح جميع الإنشاءات والتقليدات والمكاتبات وسائر ما يسطر في ديوانه‏.‏

قال أبو الفضل الصوري‏:‏ وينبغي أن يكون هذا المتصفح عالي المنزلة في اللغة والنحو وحفظ كتاب الله تعالى ذكياً حسن الفطنة مأموناً وأن يكون مع ذلك بعيداً من الغرض والعداوة والشحناء حتى لا يبخس أحداً حقه ولا يحابي أحداً فيما أنشأه أو كتبه - بل يكون الكل عنده في الحق على حد واحد لا يترجح واحد منهم على الآخر‏.‏

وعليه أن يلزم الكتاب بعرض جميع ما يكتبونه وينشئونه عليه قبل عرضه على متولي الديوان فإذا تصفحه وحرره كتب خطه فيه بما يعرف رضاه عنه ليلتزم بدرك ما فيه ويبرأ منشئه‏.‏

السابع كاتب يكتب التذاكر والدفاتر المضمنة لمتعلقات الديوان قال الصوري‏:‏ ويجب أن يختار لذلك كاتب مأمون طويل الروح صبور على التعب قال‏:‏ والذي يلزمه من متعلقات الديوان أمور‏:‏ أحدها - أن يضع في الديوان تذاكر تشتمل على مهمات الأمور التي تنهى في ضمن الكتب ويظن أنه ربما سئل عنها أو احتيج إليها فيكون استخراجها من هذه التذاكر أيسر من التنقيب عليها والتنقير عنها من الأضابير‏.‏

قال‏:‏ ويجب أن تسلم إليه جميع الكتب الواردة بعد أن يكتب بالإجابة عنها ليتأمل وينقل منها في تذاكره ما يحتاج إليه وإن كان قد أجيب عنه بشيء نقله ويجعل لكل صفقة أوراقاً من هذه التذاكر على حدة تكون على رؤوس الأوراق علامات باسم تلك الصفقة أو الجهة ويكتب على هذه الصفقة فصل من كتاب فلان الوالي أو المشارف أو العامل‏:‏ - ورد بتاريخ كذا - مضمونه كذا - أجيب عنه بكذا - أو لم يجب عنه - إلى أن تفرغ السنة يستجد للسنة الأخرى التي تتلوها تذكرة أخرى‏.‏

وكذلك يجعل له تذكرة يسطر فيها مهمات ما تخرج به الأوامر في الكتب الصادرة لئلا تغفل ولا يجاب عنها وتكون على الهيئة المتقدمة من ذكر النواحي وأرباب الخدم‏.‏

وإذا ورد جواب عن شيء مهم نزل عنده فيقول‏:‏ ورد جوابه عن هذا الفصل بتاريخ كذا يتضمن كذا فإنه إذا اعتمد هذا وجد السلطان جميع ما يسأل عنه حاضراً في وقته غير متعذر عليه‏.‏

الثاني - أن يضع في الديوان دفتراً بألقاب الولاة وغيرهم من ذوي الخدم وأسمائهم وترتيب مخاطباتهم وتحت اسم كل واحد منهم كيف يخاطب‏:‏ بكاف الخطاب أو هاء الكناية ومقدار الدعاء الذي يدعى له به في السجلات والمكاتبات والمناشير والتوقيعات‏:‏ لاختلاف ذلك في عرف الوقت وكذلك يضع فيه ألقاب الملوك الأباعد والمكاتبين من الآفاق وكتابهم وأسماءهم وترتيب الدعاء لهم ومقداره‏.‏

ويكون هذا الدفتر حاضراً لدى كتاب الإنشاء ينقلون منه في المكاتبات ما يحتاجون إليه‏:‏ لأنه ربما تعذر حفظ ذلك عليهم ومتى تغير شيء منه كتبه تحته‏.‏

ويكون لكل خدمة ورقة مفردة فيها اسم متوليها ولقبه ودعاؤه ومتى صرف كتب عليه صرف بتاريخ كذا واستخدم عوضاً منه فلان بتاريخ كذا وأجري في الدعاء على منهاجه أو زيد كذا أو نقص‏.‏

ولا يتغافل عن ذلك‏:‏ فإنه متى أهمل شيء من ذلك زل بزلله الكتاب وصاحب الديوان بل والسلطان نفسه‏.‏

الثالث - أن يضع بالديوان دفتراً للحوادث العظيمة وما يتلوها مما يجري في جميع المملكة ويذكر الرابع أن يعمل فهرستاً للكتب الصادرة والواردة مفصلاً مسانهة ومشاهرة ومياومة ويكتب تحت اسم كل من ورد من جهته كتاب ورد بتاريخ كذا ويشير إلى مضمونه إشارة تدل عليه أو ينسخه جميعه إن دعت الحاجة إلى ذلك ويسلمه بعد ذلك إلى الخازن ليتولى الاحتفاظ به على ما سيأتي ذكره‏.‏

الخامس - أن يعمل فهرستاً للإنشاءات والتقاليد والأمانات والمناشير وغير ذلك مشاهرة في كل سنة بجميع شهورها وإذا انقضت سنة استجد آخر وعمل فيه على مثل ما تقدم‏.‏

السادس - أن يعمل فهرستاً لترجمة ما يترجم من الكتب الواردة على الديوان بغير اللسان العربي من الرومي والفرنجي وغيرهما مصرحاً بمعنى كل كتاب ومن ترجمه على ما تقدمت الإشارة إليه‏.‏

قال الصوري‏:‏ فإذا روعيت هذه القوانين أنضبطت أموره ولم يكد يخل منه شيء وكان جميع ما يلتمس منه موجوداً بأيسر سعي في أسرع وقت‏.‏

  الضرب الثاني غير الكتاب

وهما اثنان أحدهما الخازن قال الصوري ينبغي أن يختار لهذه الخدمة رجل ذكي عاقل مأمون بالغ في الأمانة والثقة ونزاهة النفس وقلة الطمع إلى الحد الذي لا يزيد عليه‏:‏ فإن زمام جميع الديوان بيده فمتى كان قليل الأمانة ربما أمالته الرشوة إلى إخراج شيء من المكاتبات من الديوان وإفشاء سر من الأسرار فيضرب بالدولة ضرراً كبيراً‏.‏

ويجب أن يكون ملازماً للحضور بين يدي كتاب الديوان فمتى كتب المنشئ أو المتصدي لمكاتبة الملوك أو المتصدي لمكاتبة أهل الدولة أو لكتابة المناشير وغيرها شيئاً سلمه للمتصدي للنسخ فينسخه حرفاً بحرف ويكتب بأعلى نسخة‏:‏ كتاب كذا ويذكر التاريخ بيومه وشهره وسنته على ما تقدم في موضعه ويسلمه للخازن‏.‏

وكذلك يفعل بالكتب الواردة بعد أن يأخذ خط الكاتب الذي كتب جوابها بما مثاله‏:‏ ورد هذا الكتاب من الجهة الفلانية بتاريخ كذا وكتب جوابه بتاريخ كذا‏.‏

وإن كان لا جواب عنه أخذ عليه خط صاحب الديوان أنه لا جواب عنه لتبرأ ذمته منه ولا يتأول عليه في وقت من الأوقات أنه أخفاه ولم يعلم به‏.‏

ثم يجمع كل نوع إلى مثله ويجمع متعلقات كل عمل من أعمال المملكة من المكاتبات الواردة وغيرها ويجعل لك شهر إضبارة يجمع فيها كتب من يكاتب من أهل تلك الأعمال ويجعل عليها بطاقة مثل أن يكتب‏:‏ إضبارة لما ورد من المكاتبات بالأعمال الفلانية في الشهر الفلاني ثم يجمع تلك الأضابير ويجعله إضبارة واحدة لذلك الشهر ويكتب عليها بطاقة بذلك ليسهل استخراج ما أراد أن يستخرجه من ذلك‏.‏

قال‏:‏ ويجب على هذا الخازن أن يحتفظ بجميع ما في هذا الديوان من الكتب الواردة ونسخ الكتب الصادرة والتذاكر وخرائط المهمات وضرائب الرسوم احتفاظاً شديداً‏.‏

الثاني حاجب الديوان قال الصوري‏:‏ ينبغي لصاحب ديوان الإنشاء أن يقيم لديوانه حاجباً لا يمكن أحداً من سائر الناس أن يدخل إليه ما خلا أهله الذين هو معذوق بهم فإنه يجمع أسرار السلطان الخفية فمن الواجب كتمها ومتى أهمل ذلك لم يؤمن أن يطلع منها على ما يكون بإظهاره سبب سقوط مرتبته وإذا كثر الغاشون له والداخلون إليه أمكن أهل الديوان معه إظهار الأسرار اتكالاً على أنها تنسب إلى أولئك فإذا كان الأمر قاصراً عليهم احتاجوا إلى كتمان ما يعلمونه خشية أن ينسب إليهم إذا ظهر‏.‏

وأما ما استقر عليه الحال في زماننا فكتاب الديوان على طبقتين‏:‏ الطبقة الأولى‏:‏ كتاب الدست وهم الذين يجلسون مع كاتب السر بمجلس السلطان بدار العدل في المواكب على ترتيب منازلهم بالقدمة ويقرأون القصص كما يوقع عليها كاتب السر‏.‏

وسموا كتاب الدست إضافة إلى دست السلطان وهو مرتبة جلوسه‏:‏ لجلوسهم للكتابة بين يديه وهؤلاء وقد تقدم أنهم كانوا في أوائل الدولة التركية في الأيام الظاهرية بيبرس وما والاها قبل أن يلقب صاحب ديوان الإنشاء بكاتب السر ثلاثة كتاب رأسهم القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر ثم زادوا بعد ذلك قليلاً إلى أن صاروا في آخر الدولة الأشرفية شعبان بن حسين عشرة أو نحوها ثم تتزايدوا بعد ذلك شيئاً فشيئاً خصوصاً في سلطنة الظاهر برقوق وابنه الناصر فرج حتى جاوزوا العشرين وهم آخذون في التزايد‏.‏

وقد كانت هذه الرتبة لاحقة بشأو كتابة السر في الرفعة والرياسة إلى أن دخل فيها الدخيل وقدم فيها غير المستحق ووليها من لا يؤهل لما هو دونها وأنحطت رتبتها وصار أهلها في الحضيض الأوهد من الرياسة بعد أوجها إلا الأفذاذ ممن علت رتبته وقليل ما هم‏.‏

الطبقة الثانية‏:‏ كتاب الدرج وهم الذين يكتبون ما يوقع به كاتب السر أو كتاب الدست أو إشارة النائب أو الوزير أو رسالة الدوادار ونحو ذلك من المكاتبات والتقاليد والتواقيع والمراسيم والمناشير والأيمان والأمانات ونحو ذلك مما يجري مجراه‏.‏

وسموا كتاب الدرج لكتابتهم هذه المكتوبات ونحوها في دروج الورق والمراد بالدرج في العرف العام الورق المستطيل المركب من عدة أوصال وهو في عرف الزمان عبارة عن عشرين وصلاً متلاصقة لا غير‏.‏

قال ابن حاجب النعمان في ذخيرة الكتاب‏:‏ وهو في الأصل اسم للفعل أخذاً من درجت الكتاب أدرجه درجاً إذا أسرعت طيه وأدرجته إدراجاً فهو مدرج إذا أعدته على مطاويه وأصله الإسراع في حالة ومنه مدرجة الطريق التي يسرع الناس فيها وناقة دروج إذا كانت سريعة‏.‏

ويجوز أن يطلق عليهم كتاب الإنشاء لأنهم يكتبون ما ينشأ من المكاتبات وغيرها مما تقدم ذكره ولا يجوز أن يطلق عليهم لقب الموقعين لما تقدم من أن المراد من التوقيع الكتابة على جوانب القصص ونحوها‏.‏

وكما زاد كتاب الدست في العدد زاد كتاب الدرج حتى خرجوا عن الحد وبلغوا نحواً من مائة وثلاثين كاتباً وسقطت رياسة هذه الوظيفة وانحط مقدارها حتى إنه لم يرضها إلا من لم يكن أهلاً على أن كتاب الدست الآن هم المتصدون لكتابة المهم من كتابة الدرج‏:‏ كمتعلقات البريد المختصة بالسلطان من المكاتبات والعهود والتقاليد وكبار التواقيع والمراسيم والمناشير وصار كتاب الدرج في الغالب مخصوصين بالمكاتبات في خلاص الحقوق وما في معناها‏.‏

وكذلك صغار التواقيع والمراسيم والمناشير مما يكتب في القطع الصغير وربما شارك أعلاهم كتاب الدست في التقاليد وكبار التواقيع وما في معناهما إذا كان حسن الخط ولا نظر إلى البلاغة جملة بل كل أحد يلفق ما يتهيأ له من كلام المتقدمين غير مبال بتحريفه ولا تصحيفه مبتهجاً بذلك مطالعاً لغيره في أنه الذي ابتدعه وابتكره‏.‏

وكل من لفق منهم شيئاً أو أنشأه كتبه بخطه على أي طبقة كان في الخط ما خلا عهود السلطنة ومكاتبات القانات من ملوك الشرق أما كتابة التذاكر والدفاتر فقد كان الأمر مستمراً في بعضها ككتابة ما في المكاتبات الواردة والصادرة بدفتر في الديوان إلى آخر مباشرة القاضي بدر الدين بن فضل الله في الدولة الظاهرية برقوق ثم رفض ذلك وترك واقتصر على ما يرد من المكاتبات وما يكتب من الملخصات وكتابة الموقع الذي يكتب الجواب بسد كل فصل تحته ليس إلا وترك ما وراء ذلك واكتفى من الخازن بدوادار كاتب السر وصار هو المتولي لحفظ ذلك وإيداعه في الأضابير على نحو ما تقدم وذلك صار أمر حجابة الديوان إليه‏.‏

ثم للديوان أعوان يسمون المدار جمع مدير شأنهم أخذ القصص ونحوها وإدارتها على كاتب السر فمن دونه من كتاب الديوان ليكتب كل منهم ما يلزمه من متعلقها ولذلك سموا بهذا الاسم‏.‏

  المقالة الأولى بعد المقدمة في بيان ما يحتاج إليه كاتب الإنشاء من المواد

وفيه بابان